ياسين طه حافظ
هذا عنوان رواية ورواية بالبرتغالية أصلا، أي من البلدان التي تعيش شعوبها بين عذابات العيش وبين الأمل أو الرصاص ورفاه القلة والحاكمين.. الرواية لانطونيوس انتونيس. وهذا الكاتب عالمه غريب، غرابته ضمن مزيج من الباروك والسريالية. فهو رومانسي مرة، وهو باروكي الوصف مرة ومرة تأخذه الضرورة ليكون سريالياً. من هذه كلها له مذاقه. هل ترجمت الرواية إلى العربية؟ لا أدري. هي جديرة بالترجمة. وأفضل ألا تترجم إذا لم يكن المترجم كفئاً ويعرف أي الكلمات لهذه العبارة وبأي درجة من الانفعال والتسديد تترجم تلك.
هذه مقدمة وجِبت عليّ وأنا اتخذ من عنوانها عنواناً لمقالتي. ويبدو إني سأضطر ايضاً لأكون باروكياً وسريالياً ورومانسياً، اتأمل وأنتظر مادمت محشوراً في عالم من أكاذيب وسيئات وكل براعات القرون في التسلق والزلفى.
كانت النخب المثقفة عندنا، قبل العقود الخمسة الأخيرة، هي المحزونة المهمومة وهي الحائرة كيف تعبّر عن محنتها ولا يطالها أذى.
فشهدنا في النصوص، مثلما تشهد في هذه الرواية سريالية وباروكاً، وهرباً إلى الحلم لعل بعد هذا المغيب شروقاً ساطعاً كما كان يقول "التقدميون". لكن في صباح الغد الموعود انقلاب واعتقالات!
أحاول قدر استطاعتي أن أبعد عن التفاصيل. ولكني أقول بعد كل عذابات الناس وبعد كل تدخين وجرائد ومقالات وما تداولوا من اخبار وأمال ولوم بعضهم لبعض واتهامات وتبجحات ومزايدات وخيانات وووو.... وبعد ما يقارب القرن من التعاسة اليومية، ماذا يستطيع الإنسان أن يفعل، وإذا كان مثقفاً، كم عليه أن يتحمل من بؤس العيش وغثاثة ما يرى؟
اسمع، اقرأ... إن فلاناً كان كذا وصار كذا. وفلانا على العكس كان كذا وصار كذا... وهذا يترزق وذاك يراوغ وذاك يتستر وذلك يعاود اللعب. أقول بعد كل هذه الأفعال والصفات، هل سأل احد نفسه، بعد أن يضع نفسه مكان هذا أو مكان ذاك، أي عيش صعب وبائس نعيش واية حياة زرية، وغير مؤتمنة، فلا تأمن إلا أن تكذب وترواغ ولا تكسب خبزاً إلا تخضع وتقول بكل مرارة: لا بأس ولم لا؟ وإلا وإلا بشروط، وشروط حياة متعفنة منذ قرون ونحن نواجه سوءها، كل سوئها وعلينا أن نقول "نعم" برحابة صدر، وأي صدر رحيب هذا؟
صدر منخوب من السوء والمزعجات وما نعرف من المخفيات وما يجري وما نخشى منه؟
وإذا صحوت، وقلت ليس صواباً أن أكون سلبياً، أن أكون عنصراً خاملاً لا يتفاعل... كما يقول الكيميائيون، وإذا قررت"الاستجابة لنداء الإنسانية المدمَّرة أو نداء الواجب، أو – وهنا طامّة الوجع، الوجع كل الوجع أن تكون كاتباً إنسانياً، أن تقف حائراً وفارغ العينين تسأل بكل خيبة العالم:
وماذا أستطيع أن أفعل بعد أن احترق كل شيء؟
وكل شيء في السؤال تقود لسؤال: هل تعني لا قيمة للوعي مادامت حتى النخب نالها التلف أو الاحتراق؟ اسمحوا لي بجواب صعب وفظ: النخب أول من يحترق! ومنهم أول من يخون وأول من يسرق، وأول من يساوم، وأول من يكذب. ونتيجةً لذلك هم أول من يكشف للناس عمق الفاجعة!
ما نقرأ، ما نسمع من كلام هو التغطية، هو التعويض، أو ما يُصنَع منه طعام للجياع وأمنيات للبائسين، ولكي لا نقول لا تقدّم نخبُ الوعيِ شيئاً، تقول تقدّم عزاءً وتضع حمولاتها القديمة على ظهور العوام ما داموا لا يزالون بعد قابلين للاحتراق.
بعض من اخواننا يعرّضون بهذا وذاك.. وهل كانت الحياة سليمة ليسلم الناس؟
وهل تسلم القيم وأجواء الجوع والعوز والخوف تنتقل من جيل إلى جيل ولأكثر من قرن؟ ليجدْ كلٌّ عذراً لصاحبه وليردد، كما يبتسم، "لعل لها عذراً وأنت تلومُ... وهل تريد الناس جميعاً زهاداً ودراويش؟ كلنا تأخذنا الحاجة، الضعف في حال والخوف والرغبة في الارضاء في حال والخجل ممن حولك في حال - وهي الصحبة الحذرة:
الأبطال عموماً قليلون وغالباً ما يكونون في الكتب!
لسنا غافلين عن السوء، عن الرشى والسرقات وشراء الفرص، ونعرف جيداً ماذا في عقر منتديات النخب، نقابات أو اتحادات أو نوادٍ أو مكاتب، عيادات أو... مقابر، حتى صرنا نشهق فرحاً للعمل النظيف. أفلا يكفي أن نحمل هما وحزناً بهذا الحجم ونلتزم الصمت أو نشتم العالم في عزله، بعيداً عن أن يسمعنا أحد أو حتى يرانا ننظر بغضب؟ يقول لي حريصٌ أو بَطِر، أو مدّعٍ، متدرب، للبطولة: أنت فقط تكتب، لا تحضر مهرجاناً ولا مناسبة ولا تسهم في ندوة ولا مظاهرة.. أنت تشكر مضيّفك وتختفي.. أقول له، صحيح يا أخي ما تقول، اعتذر. دعني، في الأقل أنقذ نفسي، دعني ارثي النفوس التي سلمت وقد حاصرها مرض العالم الأبدي، وأتحدث عن الناجين.. لقد رأيت ما رأيت، فاسمعها مني: حيث تكون ثمة مَنْ يخون! والآن أسالكم اسألكم، أسال الله والناس:
ماذا أفعل إذا احترق كل شيء؟