د. كريم شغيدل
يعد الرثاء من الأغراض الأصيلة في الشعر العربي، وإذا كان هذا الغرض قد ارتبط بنزعة أخوانية أو تكسبية فإنه اليوم يشكل موقفاً آخر، إذ يخرج من إطار النفعية ليصبح مدخلا لمحاكاة الواقع، وقد يشكل نوعاً من الوفاء الذي ينتقل مما هو ذاتي إلى ما هو إنساني، فالشاعر كريم جخيور يهدي قصيدته {لضحكته ازدهار الورد} إلى روح الشهيد عمار جابر خليفة، ليوجه القارئ سلفاً، تتكون القصيدة من مدخل وسبعة مقاطع، كأنه من حيث يقصد أو لا يقصد يؤطر نصه بدورة زمانية {عدد أيام الأسبوع}
يتساءل في المدخل:
كيف ترثي القتيل..؟
هل بدمع عصيّ مكابر؟
هل ستقرأ كالعابرين سورة الفاتحة..؟
أم ستطلق في لحظة الصحو
نار البداوة
كي يستريح القتيل..؟
أسئلة إنكارية لا تنتظر أجوبة محددة، تستحضر الواقع مثل ما هو، فبين دمع الرجولة العصي والآخر العابر الذي يكتفي بقراءة سورة الفاتحة، ثمة لحظة للصحو/ الحريق، فنار البداوة تعني الثأر، على فرضية أن يستريح القتيل بالقصاص من القاتل، وبمدلول أوسع تعني الثأر من الواقع الذي اتقدت به نار البداوة بصورة نزاعات طائفية مسلحة راح ضحيتها الشهيد المعني نجل الروائي جابر خليفة جابر، إذ أطلق عليه الرصاص مجهولون وأردوه قتيلاً حيث سقطت سيارته التي كان يقودها من الجسر، ويوظف النص في المقطع الآتي واحدة من المفردات الشائعة في قاموس العنف "الرصاصة":
يا للهول
الرصاصة الغبية
تطفئ الماء
تاركة الظمأ
يتسيد القلب
بني هذا المقطع على مفارقة دلالية بين فعل الرصاصة الناري، وانطفاء الماء النقيض لفعلها، والظمأ الناتج عن الفعل المجازي، وهو أيضاً ظمأ مجازي يتسيد القلب موضع المشاعر والعاطفة ومحرك الجسد ورمز الحياة، أو مركز رفد الجسد بالحياة، وهذه المفارقة المسبوقة بصيغة نداء يخرج إلى التعجب "يا للهول" تريد أن توصل رسالة ذات مدلول أخلاقي مفادها: إنَّ الرصاصة الغبية/ كناية عن عشوائية العنف وخوائه المعرفي أو الحضاري أو الإنساني، تطفئ الحياة بدلالة الماء، بدلاً من أن يطفئ لهب حرائقها، كناية عن عجز الحياة أمام وحشية العنف، وبانعدام الحياة/ الماء، يصبح القلب كناية عن نبض الحياة وحيويتها ظامئاً أو عبداً للظمأ كناية عن الأسى والجفاف والخراب.
ومن باب التوثيق غير المباشر تأتي مراثي الشعراء لبعض ضحايا العنف، ومنهم الراحل كامل شياع، الكاتب اليساري المعروف الذي شغل وظيفة مستشار في وزارة الثقافة منذ سقوط النظام في العام 2003، وقد تم اغتياله على أيدي مسلحين مجهولين في مطلع آب 2008، ومن ذلك قصيدة عدنان الصائغ "مرثية صغيرة لكامل شياع" التي يقول فيها:
محنةٌ؛
يا عراقْ
أنْ تظلَّ المحاصرَ من كلِّ جَنْبْ
وتظلَّ المطارَدَ من كلِّ حَدْبْ
وتظلَّ دماكَ- بكلِّ العصورِ- تراقْ
وهذا النص القصير يبدو مرثية للعراق أكثر منه مرثية للراحل كامل شياع، لكنَّ عنوانه الموجه بقصدية مباشرة يجعل منه توثيقاً لواقعة معروفة، هي جزء من مشهد العنف الذي تنوعت أساليبه وأدواته وأهدافه، وإلى جانب المرثيات التي تستذكر أشخاصاً معينين هناك توثيق عام للضحايا، أي رثاء عام، كما في نص (يقين) للشاعر أسامة الناشي الذي يبدأ من الرحلة اليومية الصباحية للمواطن:
يخرجُ صباحاً يعلكُ أوجاعَه...
مختنقاً بكذب البارحةِ..
وأول البارحةِ
وغداً وبعدَ غدٍ
الشوارع المزدحمة بمنتظري الموت
تعرفه..
وتشقُّقاتُها تنتظرُ خاثرَ دمهِ
وله فيها أخوةٌ ودمٌ وعظامٌ
تصيح به أرواحٌ محشورةٌ بين أحشاءِ طابوقِ بغداد
يقفُ...
يتمتم وحدَه مثلَ المخابيلِ:
( كلُّ شيءٍ قابلٌ للانفجار
المواطنُ الذي يسيرُ في الشارع
يرحمه اللهُ)
ينتقل نص الناشي من الكنائية إلى النثرية المتداولة، ليعمم فكرتي الانفجار والموت، كل شيء قابل للانفجار وكل مواطن يسير في الشارع يرحمه الله، بمعنى آخر كل مواطن قابل للموت بانفجار شيء متوقع أو غير متوقع، والغرض هنا توثيق الحياة اليومية للمواطن المثقل بهمومه وبهواجس الموت المتربص له في الشوارع، فالرحلة اليومية للمواطن البسيط لم تعد رحلة تناسب وجوده الإنساني، بل هي أشبه بالرحلة الأسطورية، أو المغامرة المحفوفة بالمخاطر، أشبه برحلة عودة يوليسيز، أو رحلة جلجامش بحثاً عن عشبة الخلود، فهو يعلك أوجاعه كما لو أنه جندي جريح خارج من معركة خاسرة، وليس مجرد مواطن بسيط، مختنقاً بالأكاذيب المتواصلة عبر الزمن الماضي والمستقبل، ويمر عبر شوارع تزدحم بمنتظري الموت، إذ يرسم النص بيئة غرائبية، لكنها أقرب للواقع، ويستبطن حواره الداخلي مع وصفه بصيغة عامية (المخابيل) دالة على نوع من أنواع الجنون.