أحمد عبد الحسين
كلُّ عمليةِ فَهمٍ وتفهيم هي ترجمةٌ حتى لو دارتْ في لغةٍ واحدة.
حين تروم نقل معنى عبارةٍ ما إليَّ فإنك تعيدُ صياغتها لأفهمها، تنقلها لي كما لو من لغةٍ لأخرى، لأنّ الترجمة لا شيء سوى إيراد كلامٍ غير الكلام الأصلِ لتفسير الأصل.
بات هذا الأمر مألوفاً مع هيدغر: “كلّ تفسير، وكلّ ما يقوم في خدمة التفسير هو ترجمة”. ولهذا “فإن الترجمة لا تحدث بين لغتين مختلفتين وحسب، بل في صلب اللغة الواحدة ذاتها”. وأبعد من ذلك وأعمق: “في حديثنا مع أنفسنا يسودُ ضربٌ من الترجمة الأصلية”.
أين المعنى الأصلُ إذنْ ما دمنا نسبح في بحر تراجم لا تنتهي؟ وهل يمكن الحديثُ عن معنى أوّل ضاع وراء هذه الحجب؟ وهَبْ أننا أزحنا ركامَ التراجمِ والتفاسير، أكنّا سنقعُ على جوهرٍ ناصٍّ على “حقيقةٍ” يمكننا أنْ نتفهمها من دون ترجمة؟
خذْ كتاب الكتب لدينا “القرآن”. مع كل تفسير جديد كان يترجم من العربية إلى العربية، ليقرأه عربٌ بغية الوصول إلى المعنى الحقيقيّ له المكتوب هو الآخر بالعربية. وكم يغدو الأمر مربكاً ومشتِّتاً حين نقرأُ في القرآن نفسه ما يوحي بأنه هو ذاته مترجَمٌ عن لغة أخرى عُلويّة، أكثر حكمةً من لغات البشر. فالقرآن مجعولٌ عربياً من أجلنا وعلى وسعنا لنفهم ونتعقل، غير أنّ حقيقته الأصلَ في لغته الأمّ هي أعلى وأكثرُ حكمةً مما بين أيدينا: “إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون. وإنه في أمّ الكتابِ لدينا لعليٌّ حكيم”.
آلاف التراجم ـ التفاسير للوصول إلى فحوى كتابٍ هو مجرد نسخةٍ للتفهيم مترجَمةٍ عن لغةٍ لا تقعُ تحتَ إدراك. ولذا فهو النموذج الأجلى، لا لغياب المعنى الأصل وحسب، بل لإيضاح حقيقة أنه ما من معنى إلا وهو متلبّس بتفسير، ما من معنى إلا وهو مترجَم.
جُعل القرآن عربياً لأنه وهو في أمّ الكتاب، لا يمكن أن تستوعبه الأفهام والعقول. وحتى مع هذا الجعل والترجمة إلى العربية، فإن حاجتنا إلى ترجمته إلى لغته المجعول بها مراراً وتكراراً لا تزال قائمة، بدليل هذه التآويل التي يدّعي كلٌّ منها أنه مشتبك بالمقاصد الحقيقيّة له.
المعاني التي نتداولها كلّها معانٍ مجعولةٌ جعلاً، متنزَّلة تنزيلاً، وإذا كان لها من أصلٍ وراء هذه الحجب اللفظية و”المعنوية”، فهو الأصل الذي لا سبيل لنا لتعقّله، لأنه لا يقع عليه اسم يصلح للدلالة عليه وما من شبيه له نعرفه لنقايسه به.
في حكاية برج بابل التوراتية مثال على أنّ كلّ معرفة حدثتْ، فهي بسبب اختلاف الناس لا بسبب ائتلافهم. حاجتُهم إلى ترجمة بعضهم البعضَ أساسٌ لكلّ معنى ممكن. وفي الآيات التي تحدثتْ عن كون الناس قديماً أمة واحدة إشعارٌ بأنّ معارفهم أتتْ بعد اختلافهم. وفي الآية “وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا” إيضاحٌ بأنّ المعرفة في الأصل تعارف، والتعارف لا يكون إلا بين مختلفين.
المعنى الذي نعرفه نتاجُ ترجمةٍ لأنه ابنُ الاختلاف، لكنَّ وراء هذه البلبلة من المعاني المترجَمة ثمة معنى هو الأوّل “الأوّل الذي منه اشتُقَّ لفظ التأويل أيْ إرجاع المعاني إلى معنى هو الأوّل”. ولعلّه المعنى الذي أشار إليه سيّدُ التأويل بعد التنزيل علي بن أبي طالب بقوله: “أنا المعنى الذي لا يقعُ عليه اسمٌ ولا شبه”.
وحديثُ الاسم والشبه له وقتٌ آخر في مكانٍ آخر.