التاكسي الثقافي

ثقافة 2024/05/19
...

  حبيب السامر

قد تدهشك الفكرة، وتأخذك من باب إلى آخر، تتمنى لو أنها تلقى رواجاً كبيرا في مدننا، كونك تتجول في مدينة تقصدها لأول مرة، ترصد الحالات بدقة متناهية وتتفاعل وتتعاطف معها، لأنها تدخل في باب اهتماماتك، وسعادة الآخرين.
حين اتصل موظف الفندق "نزل" كما يطلق عليه التونسيون في مدينة سيدي بوسعيد بشركة النقل الداخلي لتأمين سيارة أجرة  تقلنا إلى العاصمة تونس، بعد دقائق قليلة توقفت العجلة الصفراء قبالة الفندق، نزل رجل خمسيني بابتسامة جميلة ليحينا ويساعدنا في حمل حقائبنا في ووضعها في الصندوق، جلست في المقعد الأمامي، تنتصب قبالتي رقعة شطرنج، في البدء توقعتها حالة كمالية وجمالية يضعها السائقون لجذب الزبائن، مددت يدي وحركت البيدق المسكين كونه أصغر الأحجار على الرقعة الرصاصية بلونيها الأسود والأبيض، قال: سيكمل بعدك الزبون الآخر النقلة الأخرى، وهكذا تتواصل اللعبة للوصول إلى "كش مات" كونها لعبة متسلسلة.
صمتُ في داخلي وأنا أتأمل الفكرة التي جعلت من السائق أحمد المزوغي يتعامل معها بهذه الروح، سألته: وماذا بعد، قال بهدوء جم: هذا هو التاكسي الثقافي وأضاف: توجد هنا في الخانة الخلفية ما يقرب من خمسين عنوان كتاب متنوع الاهتمامات ومختلف العنوانات واللغات والثقافات في القصة والرواية والشعر والدليل السياحي لمدن تونس الخضراء، وموقع مهتم جدا اسمه "يلا ريد"، ويستطرد: كنت سائق سيارة أجرة  لأكثر من تسع وعشرين سنة، ولكني نفذت هذه الفكرة "التاكسي الثقافي" منذ عام 2016، لتحقيق رغبتي عندما كنت اجمع الكتب، والأجمل هنا لقيت من شجعني ومن بيهم مكتبة الكتاب، وهناك من استحسن الفكرة وشد على يدي، حيث عندي الآن في الدار اكثر من 1000 عنوان مختلف في موقع "تعال اقرأ".
وكيف وجدت اقبال الناس على القراءة؟ قال المزروعي حين يباشر الزبون بقراءة أحد الكتب ويعجب به، نعطيه رابطا ليتابع قراءته، وهناك مكتبة متخصصة لذلك، تساعدنا على نجاح مشروعنا الثقافي هذا، كما وهناك اهداءات كثيرة من مكتبات ورموز ثقافية في المدينة.
لم يقف عند هذا الحد، بل واصل حديثه: وتوجد مكتبة صوتية وفديوية تضم كليبات متنوعة وأشرطة وثائقية عن المعالم السياحية في تونس، حيث تتوزع ثلاث شاشات، واحدة في المقدمة، واثنتان قبالة المقعدين الخلفيين، وجهزنا سماعات ليتمتع الزبون برحلة جميلة. أسعى إلى تطوير الفكرة بجودة خاصة واستثنائية بعد تجربة تسع وعشرين سنة في قيادة سيارة الأجرة لأصل إلى تنفيذ التاكسي الثقافي الذي يعد مفخرة وحالة نادرة في المدينة، كونه يقدم خدمات تقضي على وقت فراغ الزبون وهو يجوب شوارع تونس.
لم يكن هذا التكسي الأصفر "تكسيا" فقط، بل كان بمثابة مركز ثقافي متنقل بين الكتب والأفلام والألعاب للأطفال، نمت هذه الرغبة لديه كونه من هواة جمع الكتب وحب السينما ومتابعة دور العرض، والتواصل مع الأجواء الثقافية، كونها حالة فريدة حظيت باستحسان من استقل هذه العجلة الصغيرة بحجمها، والكبيرة بمحتواها الثقافي، وتفاعل معها زملاء المهنة وشجعوا المزروعي لتطويرها أكثر.
حين تتجول في هذه العجلة، لابد أن تأخذ رقم سائقها لتواصل الرحلة بهدوء وزاد معرفي وموسيقى هادئة.