علي رضا سعيد.. البياض والسواد

ثقافة 2024/05/20
...

 وارد بدر السالم


(1)

أحياناً نأتي على شعور بأنّ فن البورتريه هو تصوير يُراد منه توثيق الزمن الشخصي من خلال الوجوه لا غيرها. فالوجوه مرايا تعكس الباطن الشخصي بشتى الطرق. وقد يكون هذا الشعور حقيقياً في بعض الأحيان، حينما يكون البورتريه جامداً لا يتحرك، يستعير من الكاميرا الثابتة لحظة زمنية خاطفة لا تمثل فناً جمالياً، بقدر ما هي لحظة توثيقية موصوفة بأسبابها، بلا حالة نفسية تتقارب مع تلك اللحظة الجمالية التي يجسدها فن الرسم الشخصي. وهذا انطباع عام يقترحه الفن في جمالياته الكثيرة. ولا يقترحه "التصوير" المباشر الذي تمثله الكاميرا على أية حال. وبالتالي فأن الكاميرا هي مستودع صوري في كثير من الأحيان، بالرغم من أن قناعتنا المبدئية بأن الفوتوغراف المتحرك هو فن جمالي أيضاً. لكن للبورتريه احتكاماته الفنية. ويبتعد عن الفوتوغراف بمقدار كبير، بموجّهات جمالية غاية في الدقة والرصانة.


(2)

في المعرض الأخير للفنان علي رضا سعيد والذي ضم 140 بورتريهاً، لم يحمل المعرض اسماً كرؤية فنية للأجيال الفنية والأدبية والثقافية التي رسمها، بل ترك المشهد الكلي للتلقي العام، باعتبار أن المعرض بأكمله هو استحضار لأجيال أدبية وفنية وإعلامية عراقية وعربية مختلطة، عبر (بورتريهات) كتسمية فنية وانطباع أول وأخير للمشاهَدة، يربطها- جميعاً- هاجس الإبداع والتفوق وانتماء لأمكنة متعددة من العالم العربي. وكأن الفنان يتقصّد بأن يقدم سِيَراً شخصية لهذه النخب عبر تخطيطات أكاديمية رصينة، متعددة المنافذ والرؤى، ساطعة- ناعمة على بياض الورقة، وأخرى فيها خشونة اللون الأسود وتدرجاته الوصفية في هواجس يتلمسها الفنان في محاكاة الحياة الباطنية للكثير من الشخصيات التي يرسمها. وهي محاكاة تغلّب فيها الفني على الحياتي في كثير من الأحيان. 

بمعنى غلبة الجمالي على العرض البورتريهاتي المتمثل في (وجوه) المعرض وهي كثيرة تمثل جوانب حياتية واجتماعية وفنية وأدبية وإعلامية كثيرة. 

لم يسردها الفنان كما هي، بل سردتها خطوط الرسم الواقعة بين الضوء والظل والنعومة والخشونة في مفارقات بَصَرية، يجتهد الفنان في إيجادها لإيصال الكثير من جماليات المخفي الوجوه المتنوعة التي طالعَنا المعرض بها. 

وقد تبدو هذه المهمة شاقّة، لكنها تأصيل لفكرة البورتريه الذي لا (ينقل) الواقعة الشخصية، لكنه يعمل على (قراءتها) سيكولوجياً بتحشيد الكثير من المعلومات عنها. مما يسهّل عليه فهمها في مختبر الرسم والتخطيط. وهذا جهدٌ مضاف إلى جهد الرسم الذي يفهمه الفنانون المحترفون. 


(3)

بين البياض والسواد، بين الضوء والظل، يقدم الفنان تجربة بَصرية نفسية مثيرة للاهتمام، بتشخيص تخطيطاتي دقيق ينبّه إلى احترافية بيّنة ، يقترب في بعض الأحيان من فكرة التقاط الكاميرا لها؛ لكنه يتجاوزها كثيراً، فاللقطة الكاميراتية توثق زمن الصورة ولحظتها الجامدة ولا أكثر من هذا، لكن التشخيص بقلم الرصاص عند الفنان المحترف يستعذب الطاقة الروحية والبَصَريّة والداخلية، فيتماهى مع الرؤيا الباطنية كثيراً، حتى لتبدو التخطيطات الشخصية كأنها ستنطق في حيّز اللوحة أو تقول شيئاً للمتلقي، وهذا متأتٍ من الحساسية العالية للفنان، حينما يقيم صلة مباشرة مع الشخصيات التي يتعامل معها بتشخيصٍ عالٍ، مما يشير إلى تجانس داخلي بينه وبينه الشخصية المرسومة وفهم موضوعي لها في ظروفها المتعددة. 

أو بتعبير آخر هو الدخول الحساس لجزءٍ من تلك الشخصيات عبر الوجوه في فرادة امتثالها التصويرية لقلم الرصاص، فالتعبير السيكولوجي ينطبع عبر هذه الزاوية شديدة الحساسية، تمثله العتمة أحياناً، كما يمثله السطوع المنعكس على خلفيات الرسم. وبين الحالتين تسير مساقط الضوء أو تتعثر بين هذه الأجيال في رؤى متعددة، قوامها زمني في الأغلب الأعم. 

فالوجوه التي يكوّنها المعرض هي حيوات ليس مهماً أن تتماسك في وجودها  الشخصي والحقيقي أو تتعثر في مسارات الحياة، لكنها تتماسك كثيراً في قلم رصاص أكثر شفافية، وأصابع ماهرة تجيد مواضع لونين في رؤيا اختزالية يتحكم بها اللونان الأسود والأبيض وتدرجاتهما الجمالية في رسم سيرة فردية لفنانين وأدباء وإعلاميين عراقيين وعرب. لهذا نجد الزمن مطاطاً في الوجوه الكثيرة التي تحيل إلى زمنها الخاص وإلى مراحل كثيرة عاشتها. 

كونه زمناً ليس ثابتاً في متغيرات الحروب والسياسة المتناقضة مع واقع الحال العربي منذ مطالع نشوء الدول العربية في مسمياتها المختلفة. لهذا يمكن فرز الأجيال الفنية والأدبية في عموم المعرض من خلال الوجوه المستعرَضة وهي تشير إلى وجودها الزمني، مثلما تشير إلى وجودها الثقافي والفني في التجليات الإبداعية المتعددة.


**

وعلي رضا سعيد الحاصل على ماجستير فنون تشكيلية - المعهد العالي للفنون الجميلة في تونس- 2004. ودكتوراه علوم وتقنيات الفنون من المعهد العالي للفنون الجميلة في تونس- 2013. أقام 14 معرضاً شخصياً من عام 1988 إلى عام 2022 في الامارات وتونس وليبيا والأردن وبغداد، وله مشاركات كثيرة في مهرجانات محلية وعربية ودولية في باريس والسويد وقطر ومصر وتونس وعمّان وبغداد.