كمال عبد الرحمن
قبل الدخول في شرح الحِجَاج لابد أولا أن نعود لأصل المفردة، وهو نوعان من الفعل المضعّف أو غير المُضعّف" حاجَّ أو حاجج" ومضارعه "يحاجُّ أو يُحاجج" والمصدر" حُجّة"، والحجاج هو من العلوم النادرة وقليلة الاستعمال وحديثة في تطبيقها في الدراسات اللسانية النقدية، وقد ورد هذا الفعل مرات عدة في القرآن الكريم، منها قوله تعإلى (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة:258. فهذا أفضل مثال يمكن من خلاله الوصول إلى معنى "الحجاج"، فإبراهيم "ع" قدم حجتين (الأولى: أن الله يحيي ويميت) و (الثانية: يتحدى بها خصمه أن يأتي بالشمس من المغرب). فعجز الظالم عن تقديم الحجة والبراهين، وكذلك في قوله تعإلى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) الحج:آية 8.
فالجدال الذي لا حجة فيه ولا براهين ليس حجاجا، فهو مجرد نقاش عقيم من أجل إضاعة الحقيقة وتشويه القصد أو الغاية من الكلام، ولنا هنا أن نتساءل ما الحجاج؟ يمكن القول إن الحِجَاجُ (وسيلةٌ من وسائلِ التواصلِ المهمةِ بين الناس، فما من فكرة، أو اعتقاد، أو تَوجُّهٍ إلا وتجدُ مَنْ يُؤمِنُ به ومَن لا يُؤمن، ومن يُوافق، ومَن يُعارِض، ونتيجة لهذا الخلاف يُنتج الحجاج؛ ليكون وسيلة يعتمدها الناس؛ لغرض عرض أفكارهم والدفاع عنها، وسماع ما عند المُخَالِف من أفكار ومحاولة ردها). فالحجاج هو تواصل وتبادل آراء، بحيث يدافع كل انسان عما يعتقده صوابا، ويرفض ما يظنه خطأ، وحتى وأن كان اعتقاده وظنه هما خطأ في الأصل، كما ليس من المنطق أو المقبول أن يدخل الإنسان في مناقشة رأي مخالف لرأيه، وبعد تقديم الأدلة والبراهين من قبل الطرفين المتحاججين، يرفض الاعتراف بخطأ رأيه، وصواب رأي الطرف الآخر, وإلا تحول الأمر إلى فوضى وجدل عقيم بلا نتيجة مثمرة. ونعرض ثلاثة أنواع من آراء العلماء والنقاد بالحجاج، أي: النقد العربي القديم، ثم الآراء الحديثة والمعاصرة، وأخيرا نستعرض آراء الغربيين وعلى النحو الآتي:
أولا: آراء النقاد العرب القدامى: قال الفيروزآبادي عن مفردة" حجة" إنها (اسم مضَعَّف على زنة "فُعْلَة" لبرهان أهل الحق والدلالة البينة للمَحَجَّة أي المقصد المستقيم الذي يقتضي صحة أحد النقيضين)، فالحجة تنقصها على الدوام البراهين، وإلا فتتحول إلى إدعاء قد يكون صادقا أو كاذبا على حد سواء، فإن توافرت صارت حقيقة، وإن لم تتوافر فهي مجرد إدعاءات كاذبة،وعرّفها الجرجاني على أنها (ما دلَّ على صحة الدعوى، أو قيل الحُجَّة والدليل واحد). وذكرها أبو البقاء الكفوي بقوله (والحُجَّة بالضم: البرهان، وما ثبت به الدعوى من حيث إفادته للبيان يسمى بَينة، ومن حيث الغَلَبة به على الخصم يسمى الحُجَّة) ونستنتج مما تقدم أنَّ الحجاج عند القدماء يعني وجود اختلاف يتحاجج فيه خصمان يقدم كل منهما أدلته وحججه, لغرض الظفر والفوز على خصمه.
وعند النقاد العرب المعاصرين، ورد مصطلح الحجاج عند الدكتور توفيق الطويل حيث يقول (إنَّ الحجاج هو ترتيب الأفكار ترتيبا دقيقا بحيث تؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو إلى البرهنة على صحة حقيقة المعلومة). وعرفه الدكتور أبو بكر العزاوي بأنَّه (تقديم الحُجَج والأدلة المؤدية إلى نتيجة معينة). أما عند الدكتور طه عبد الرحمن فعرفه: (حدُّ الحِجَاج أنَّ كل منطوق به موجَّه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها) يستنتج من آراء النقاد المعاصرين العرب أنَّ الحجاج دعوة مخصوصة مرتبة ترتيبا دقيقا تؤدي إلى نتيجة معينة.
أما عند النقاد الغربيين فقد قال ديكرو وأنسكومبر (أنَّ كل قول يحتوي على فعل إقناعي، فإن تتكلم يعني أنَّك تحاجج "كل قول حجاج" ولا وجود لكلام دون شحنة حجاجية). وعرَّفَ بيرلمان وتيتكا الحجاجَ بأنَّه (درس تقنيات الحجاج التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يُعرَض عليها من أطروحات وأن تزيد من درجة التسليم). فهي مجموعة من الأساليب أو الطرق التي من خلال دراستها يمكن أن يجعل من المخاطب يُسلِّم لما يطرح عليه من أفكار، أو تزيد من درجة التسليم.
فإذا كان شعار النقد الحجاجي (نحن نتكلم بقصد الاقناع)، فهذا يبرز لنا نوعين من المتحدثين، الطرف الأول وهو يتسلح بحججه، والطرف الثاني وهو أيضا يكون قد تسلح بالحجج، ثم تبدأ المحاججة، ويفوز الطرف الذي يمتلك حججا وأدلة أقوى من الآخر، لكن ليست النتيجة دائما تكون متوقعة بهذه الطريقة، أي أنه ليس بالضرورة أن يقتنع صاحب الأدلة الضعيفة برأي صاحب الأدلة القوية، فقد يكون النقاش من طرف واحد، بينما الطرف الثاني يمتلك حججا واهية، لكنه لايتنازل عن رأيه، لأن الغاية من المحاججة لديه ليس الوصول إلى الاقتناع التام بالرأي الصواب، بل من أجل تشويه الحقيقة، وبث الآراء والأفكار السيئة بين أفراد المجتمع، وهذا هو عمل "السفسطائيين" الذين قدموا "القول" على كل "عمل" من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، فاتخذ السفسطائيون "القول" مهنة وحجة لتحقيق مطامعهم الشخصية وأحلامهم التوسعية من أجل السيطرة على المجتمع عبر مجموعة من الفلاسفة السفسطائيين الذي لهم القدرة الكلامية على تغيير الحقائق عن طريق أساليب قوية وخادعة في الحوارات مع الناس، تقع عليهم وكأنها السحر، فيقتنع بها الجاهل والإنسان العادي وغيرهم، وقد حاربهم افلاطون وكشف نواياهم وفضح مؤامراتهم وأكاذيبهم وحيلهم بين الناس (فنتيجة للانحلال الفكري والسياسي حاول افلاطون أن يقدم مشروعا فلسفيا يعيد من خلاله تنظيم المجتمع الأثيني من خلال نظريته في "المُثل" التي دافعت على مرتكزات ثلاثة وهي: النظام: العقل، الحقيقة) فحاول فيها الدفاع عن العدالة التي انكر السفسطائيون وجودها، وزعموا أنها مفهوم غامض لا يؤمن به إلا الضعفاء، ومن هنا نشأت الحرب الحجاجية بين جماعة العدالة التي تتحقق عن طريق العقل والمنطق وبين السفسطائيين الذي أنكروا العدل والعدالة، فالحجاج هو في النهاية طرفان يقدم كل منهما أدلته وبراهينه، والعاقل من يرضى بالحق والعدل مهما كانت نتائجه، وأصحاب الأقوال والادعاءات الفارغة لا يرضون إلا بآرائهم مهما كانت نتائج الحجاج.