المرأة منتجة للشعر

ثقافة 2024/05/21
...

  شميران توديشو

تناولت دراسة الدكتور جابر خضير موضوعة المرأة التي تمثل أحد الموضوعات الأساسية في أبحاث اتخذت من دراسة واقع المجتمع العربي، وما يتحكم به من عادات وقيم وتقاليد مادة لها.
إن المطلع على مجمل موروثنا في المجالات كافة سوف يجد الحضور اللافت للمرأة، وهو حضور أفرز الكثير من الدراسات، التي تناولت واقع المرأة في الثقافة العربية. ولعل النتيجة المتحصلة من هذه الدراسات هي تلك الصورة السلبية التي كونتها الثقافة عن المرأة. صورة شملت الجوانب المتعلقة بها، الثقافية، والمعرفية، والبيولوجية، والسيكولوجية. ولأن النقد مؤسسة فاعلة ومتأثرة ببقية مؤسسات المجتمع العربي القديم، فقد سعت هذه الأبحاث التي كتبها المؤلف بأوقات متقاربة، نسبيا إلى بلورة نظرة خاصة للمرأة من خلال نصوص النقد العربي، وهي نظرة لا تتقاطع مع التصورات المتشكلة، حول المرأة بقدر ما تؤكدها وتتلاءم مع توجهاتها الإقصائية.
حاول الكاتب في البحث الأول استجلاء تصورات أفرزت هذا الموقف السلبي من المرأة في الثقافة العربية بشكل عام، ومؤسسة النقد العربي على وجه الخصوص، أما البحث الثاني فيدرس موضوعة الغزل من خلال استجلاء المقاييس والمعايير التي صاغها النقاد العرب لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، ودرس في البحث الثالث المرأة والإبداع الشعري من زاويتين، الأولى بوصفها منتجة للشعر والثانية عن تقبل المرأة للإبداع الشعري محاولا بذلك استجلاء أهم بواعث هذا التقبل. وتنطلق الدراسة الرابعة من ديوان الحماسة لأبي تمام وذلك للإجماع الأدبي الذي نالته مختارات هذا الديوان من النقاد العرب.
إن الحديث عن الأنوثة بوصفها قيمة متدنية في الخطاب النقدي يستمد مشروعيته من خصوصية الثقافة، التي انتجت ذلك الخطاب وكرست سلطة الذكر والنظرة إلى المرأة على أنها محور الشر، وقد تحدث الباحثون عن خلفيات أسطورية ودينية كان لها الدور في تشكيل ذلك الاتجاه، إلا أن هناك أسبابا تتصل بالطبيعة البيولوجية للمرأة أو بنصوص المؤسسة للثقافة. ويختصر الأسباب في ضعف البنية الجسدية والقدرة العقلية للمرأة، وأن التأكيد على نقص عقل المرأة من نصوص المؤسسة الدينية ترك أثره على التوزيع القيمي للرجل والمرأة، إذ أصبح العقل قيمة ذكورية يتميز بها الرجل عن المرأة، كما أن جميع الصفات التي حددتها الثقافة للعالم هي فحولية. هكذا تم اقصاء المرأة من دائرة العقل وكل ما يدخل تحته من سياسة وبيان وأعمال للرأي، وهو ما عكس صورة سلبية تتمثل في جعلها خارج اطار المشاركة الفعلية في انجاز القرار. هذا التصور الدوني لقيمة المرأة المعرفية قد تجلى في الخطاب النقدي، بوصفه مجالا لاستثمار مجازي يكرس هيمنة الرجل إذا ما تم قياس معارفه بمعارف المرأة.  
وتحت عنوان المرأة والسلطة يقول الكاتب، ربما يبدو من الغريب أن نتكلم عن سلطة تتمتع بها المرأة في خطاب ذكوري قد نشأ بالأصل في ظل ثقافة ذكورية قامت بتهميش المرأة وسلبتها عقلها الذي يعد أهم المقومات الاساسية التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، إن الحديث عن سلطة مضادة في ضوء المعطيات يتطلب من الباحث وضع اليد على نقاط الضعف، التي يمكن من خلالها أن نتكلم عن صراع سلطوي يحاول فيه كل طرف استحواذ الطرف الآخر والسيطرة عليه، وبما أن الثقافة العربية هي ثقافة ذكورية، فلذا يعد الرجل هو العنصر الممثل لهذه الثقافة والمعبر عن توجهاتها. هذا الدور المركزي للرجل في المجتمع العربي هيأ له مجالا واسعا لممارسة سلطته على المرأة، التي تعد الفضاء الذي يمكن أن تتجلى فيه هذه السلطة في اوضح تجلياتها. والسؤال هل من الممكن ايجاد سلطة مضادة تسعى الى تقويض السلطة المهيمنة في التراث العربي؟ وتهدف إلى إيجاد نوع من التعارض بين المسيطر ومن يقع تحت السيطرة في جسم المجتمع. لقد تجلَّت سلطة المرأة في موضوع العشق في الخطاب النقدي عند العرب ضمن دائرتين، يمكن أن نطلق عليهما دائرة الالغاء ودائرة المنع وتندرج ضمن دائرة الالغاء ثلاثة محاور، إلغاء الذات والعقل والجسد. أما دائرة المنع فتشمل منع كلا من المعارضة والتكافؤ والتعدد والتجلد والاعتدال.
وعن المرأة والإبداع الشعري كتب، أنه على الرغم مما توصل إليه الباحثون حول أدب المرأة في التراث العربي، والذي يتمثل بقلة ما وصل منه اضافة الى حصره بموضوعات دون أخرى، ويبقى الأمر هنا مدارا للفحص والتمحيص من خلال ما وصل إلينا من هذا الأدب، فهناك مؤلفات قد تناولت أدب المرأة في التراث العربي وإبداع المرأة في المنظور النقدي، فلا شك أن كثيرا من الاعراف والعادات والتقاليد التي يؤمن بها مجتمع ما، تنعكس بصورة واضحة على الأدب الذي ينتجه أفراد المجتمع، كما لا شك أيضا أن العادات والتقاليد تفعل فعلها في خطاب نقدي يدور حول هذا الأدب، لأن الناقد هو كما المبدع فرد يتأثر بتقاليد المجتمع وتصوراته، وقضية المرأة والموقف منها هو من القضايا الجوهرية في الثقافة العربية وشرح ذلك وفقا لعدد من المحاور منها، "المرأة والكلام والشعر والمنظومة القيمية" مثلا هناك قيمتان متناقضتان، الشعر: قيمة ذكورية تمثل الدرجة العليا للجودة، وقيمة أنثوية تمثل الدرجة السفلى للجودة، وأن القيمة الانثوية بما تمثله من عيوب فنية هي ما يندرج ضمنها جميع نتاج المرأة في المنظور النقدي.
يقول أبو العلاء المعري بعد ذكره عيوب القوافي في كتابه الفصول والغايات "وانما يوجد ذلك في اشعار النساء والضعفة من الشعراء". فالمعري يرى أن شعر النساء في مجمله ضعيف لما يعتريه من عيوب فنية لا يتساوى معهن في ذلك إلا الضعاف من الشعراء، وهذا ربما كان السبب في تغييب شعر المرأة في العصر الأموي، كما يرى أبو الفرج الاصفهاني الذي أمر من قبل أحد الوزراء بجمع أشعار النساء وأخبارهن في الدولتين الأموية والعباسية، إذ يقول:"ولم اجد في الدولة الاموية منهن شاعرة مذكورة ولا خاملة، لأن القوم لم يكونوا يختارون من شعره لين ولا يرضون إلا بما يجري مجرى الشعر الجزل المختار الفصيح". وبالنظر الى كل ما تقدم هل يمكن للمرأة أن تسحب اعترافا بشعرها من قبل القيمين على الابداع من النقاد إذا ما أرادت أن تمضي بكتابة موضوعات تناسب ميولها وخبراتها، أم أنها ستلجأ الى تفحيل شعرها في مناورة منها لسحب اعتراف مؤسسة النقد بها؟ وهذا ما فعلته الشاعرتان الخنساء وليلى الاخيلية اللتان كان لهما حضور لا بأس به في نصوص النقاد العرب.  
إذ تميز شعراهما بالرثاء، ولكن الأخيلية اشتهرت برثاء حبيبها توبة بن الحمير، الأمر الذي جعل منها ظاهرة فريدة في تاريخ الشعر النسوي، لما هو معروف من تشدد المجتمع العربي ازاء شعر المرأة، خصوصا إذا كان في الحب والغزل. وتقبل النقاد العرب شعراهما على أسس ومعايير تم على ضوئها استحضاره في نصوصهم، كأسس موضوعاتية في المديح والرثاء. وعلى الرغم من أن أغلب شعر الشاعرتين هو في الرثاء، إلا أن ذلك لم يمنع النقاد من استحسان اشعارهما ضمن إطار المديح أو حتى الفخر، لأن النقاد نظروا الى هذه الموضوعات على أنها موضوع واحد، وتبقى فوارق التسمية بينهما لا تغير من مضامينها القيمية شيئا. ومن أهم الاسس التي يبنى عليها المديح عند النقاد العرب هي المدح بالفضائل النفسية كالعقل والشجاعة والعدل والعفة. ولم يختلف الرثاء على صعيد التغني بالقيم الذكورية عن المدح والفخر عند النقاد العرب، إلا أنهم لاحظوا فرقا في مقياس درجة العاطفة في رثاء المرأة ورأوا أن ذلك يعود للطبيعة السيكولوجية للمرأة والتي تتمثل بالجزع الناتج عن الخور وضعف العزيمة، وهو ما ينبني عليه الرثاء في نظرهم. وعلى الرغم من صواب هذه النظرة التي ترى في قوة العاطفة مقياسا لجودة الرثاء إلا أن النقاد العرب لم يفضلوا من الرثاء إلا ما كان يتغنى بالقيم الذكورية، ولذلك رأوا أن من أشد الرثاء صعوبة على الشاعر، أن يرثي طفلا أو امرأة لضيق الكلام عليه وقلة الصفات. والواقع أن الخنساء والاخيلية، لم تدخلا ميدان الفحول إلا بعد تفحيل شعراهما عبر الاشادة بقيم الجماعة في رثائهما، وهو ما يتضح جليا في جميع اشعارهما التي حازت على رضا ذائقة النقاد العرب.
وبما يتعلق بأسس فنية كالجدة والابتكار والموازنات والسرقات الشعرية، والتي تتصل اتصالا مباشرا بمسألة الابتكار، لأن تشديد النقاد على ارجاع المعاني الى أصولها، إنما محاولة للتنويه بحيازة الشاعر لمعانيه الخاصة به بعد أن آمن النقاد بفكرة نفاذ المعاني، وأنه قد استهلكها الشعراء المتقدمون، الأمر الذي يجعل من الربط بين الفحولة التي تعني قمة الجودة العليا للإبداع وبين السرقات الشعرية في المنظور النقدي ربطا يقوم على أسس فنية وطيدة. ولا بد من الاشارة إلى أن هناك ظواهر فنية، هي من مقومات الاسلوب الفني الرفيع، كما أنها تعد أيضا من اسس القدرة الابداعية للشاعر، والتي فتح النقاد العرب لها ابوابا مطولة في مؤلفاتهم تحت مسمى البديع، وهو ما لم يغب فيه شعر الشاعرتين، فضلا عن غيرهن من الشواعر. ولم يكن حضور المرأة بوصفها منتجة في الموروث النقدي أكثر من ناقدة للأبداع، وإذا كان شعر المرأة قد جاء في معظمه ضمن شروط الكتابة الذكورية، فإن نقدها كان نقدا نسويا بامتياز.
يعد اختيار الشعر أول ممارسة نقدية عرفها العرب قبل تأسيس نظرية متكاملة تقوم على أسس ومعايير معلومة، فالاختيار جهد نقدي يقوم على المؤهلات التي يمتلكها المختار، وما يتميز به من ذوق فني وخبرة في قراءة الأعمال الادبية ويحتفظ ديوان الحماسة لأبي تمام أكثر من غيره من المختارات الشعرية بالإبداع النسوي، إذ لا تخلو أبوابه منه رغم قلته إذا ما قيس بالإبداع الذكوري.
وللحماسة معنيان تدور اغلب الدلالات المتفرعة عنه في اللغة، وهما: الشدة والشجاعة. ويمثل الرثاء الباب الأكثر حضورا لشعر المرأة من بين أبواب الحماسة لما للرثاء من صلة بالمرأة، إذ نشأت المرثية الأولى من ندب النوادب المجرد من القوالب، ولهذا غلب تعهده بعد ذلك على النساء. وإذا كان الرثاء ألصق أغراض الشعر بالمرأة وأقربها لطبيعتها العاطفية، فإن الهجاء يعد على النقيض من ذلك تماما، ولهذا كانت مشاركتها في هذا الغرض نادرة. إلا أننا على الرغم من ذلك لا نعدم خوض المرأة هنا لأسباب ربما دفعتها لذلك. وبالنظر الى ديوان الحماسة يمكن أن نصنف من توجهت إليهم المرأة بالهجاء الى ثلاثة وهي "هجاء الجماعة، هجاء الزوج وهجاء المرأة". أما في باب النسيب، هناك مقطوعة واحدة واردة للشاعرة  وجيهة الضبية، فهي شعر في الحنين الى ديار عشيرتها، أكثر منها غزلا لرجل بعينه، لا سيما وأن التشوق الى الديار يعد قيمة مشتركة بين شعر الحب والحنين الى الوطن، الذي يعد بدوره من أكثر الأغراض الشعرية التي اجتذبت الشاعرة، لأن المرأة ربما تزوجت خارج أرضها فتشوقت لوطنها وذكرياته.