أقفاصٌ تستنطق المسكوت عنه

ثقافة 2024/05/21
...

  أنفال كاظم

تضم المجموعة القصصية "طائر الكناري الوحيد" لجمال نوري ما يقارب 139 قصة قصيرة جداً، أخذت على عاتقها طرح موضوعات وقضايا فكرية وحياتية تحاكي المشاعر الإنسانية المنغمسة في صميم الواقع بحذافيره، وما ينطوي عليها من حالات اجتماعية مثل الحب والفقر والرغبة والحرب والانتقام والتمني والخيبة والشوق والحنين للماضي وغيرها من مشاعر وحالات تجلت على السطور بأسلوب وبناء فني متكامل ومُلم بمفاصل وأركان الجنس الأدبي المعروف بالقصة القصيرة جداً.
من ناحية الوحدة والتكثيف والمفارقة وفعلية الجملة والإدهاش واللجوء إلى الأنسنة والجرأة والإيهام والتلميح والخاتمة المتوهجة والمحيرة وطرافة اللقطة واختيار العنوان المناسب وأخيرا استخدام الإيماء والرمز.
من الجدير بالذكر أن البعد الرمزي في هذه المجموعة يتعانق مع البعد الواقعي في أغلب قصصها، إذ وظف نوري الرمز في سرد قصصه بطريقة متميزة على اعتبار أن الرمز هو من أساليب التصوير أو وسيلة إيحائية، فكلاهما الرمز والصورة قائم على التشبيه وعلاقتهما أقرب إلى المتماثلة، وكما ذكر سالم محمد سالم القرني أن "الرمز من الوسائل الفنية المهمة في الأدب، يلجأ الاديب إلى الإيحاء والتلميح بدلاً من المباشرة والتصريح"، فالرمز ليس مجرد محاكاة للواقع الجامد، بل يحاكي العلاقات الطبيعية بين الكائنات الحية والأشياء غير الحية من جهة أخرى.
من هنا جاءت أهمية حركة الرمز ضمن السرد القصصي وحيويته وايحاؤه، إذ عمد القاص إلى استعماله كوسيلة جمالية تمكنه من الدخول لعوالم فنية شاسعة مُفعمة بالإثارة والحماس والتشويق، ومكنه أيضا من الوصول إلى خطابٍ سردي يتخذ من الجمال والفن طريقا يُفضي إلى سياقات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.
إذ عمد على استنطاق ما هو مسكوت عنه برشاقة وأسلوب سلس.
ففي قصة "أقفاص" لم تكن تلك الطيور المسكينة والمنسية بين القضبان وهي تكابد الجوع والعطش في ظروف صعبة، مثل الإرهاب والنزاعات والاقتتال، هي طيور بمعناها الواضح والواقعي ككائن حي ومجرد حيوان أليف ووديع، بل كانت أشبه بالأرواح الحرة وانعكاساً لنفوس البشر المرتعبة والمعلقة بين جدران الماضي وذكرياته الهادئة من جهة، وفضاءات المستقبل المجهول الصاخب بالتقلبات والخوف من جهة أخرى، فقد استخدم القاص هذا الرمز بمثابة وسيلة فنية للتعبير عن الهواجس والمخاوف والقلق الذي أراد أن يفصح عنه.
ولم تكن الساعة الكبيرة الملتفة على تلك الذراع المبتورة في قصة "مطر أسود" والتي تهمس بإصرار "تك تك تك" بين ركام الجثث والاشلاء البشرية، هي الساعة بمعناها المجرد، بل رمز له بُعد مختلف يجر خلفه معان عبثية ووجودية عن ماهية الحياة والأقدار للشباب المسحوق تحت مطرقة الحروب وويلاتها وأهوالها.
فقد كان دور الرمز في هذه القصة بمثابة تصعيد لـ "اللحظة الشعورية وبلورتها وتعميقها في ذهن القارئ".
إذ أظهر امتزاجاً رائعاً مع حتمية الواقع والمصير الذي يربط كل أبناء هذا الشعب المغبون.
وكما ذكر درويش الجندي "الحدث قد اختلف عما كان عليه في القصة التقليدية فلم يعد يحمل عنصر المفاجأة والعقدة والتشويق، والخاتمة ولم يعد يرتكز على عنصر الحدوثة في القصة الجديدة، وإنما أصبح الحدث لقطة ايحائية رامزة له ابعاده المختلفة".
وهذا ينطبق تماماً على قصة "الدمية" التي تحمل على عاتقها قضية غاية في الأهمية، بل هي رمز واضح لواقع مرير يتجلى حول من ازهقت أرواحكم بسبب حماقات ومهاترات من تناط لهم مسؤولية حماية هذا الشعب من دون التفكير بمدى الخراب الحقيقي الذي يخلفوه.
فتلك السيارة التي انفجرت وسط المتجمهرين في السوق من باعة وشباب وأطفال ستنفجر مراراً وتكراراً، ولن يتبق منها سوى أصوات الدمى الصغيرة الضاحكة والزاخرة بالحياة من دون انقطاع وسط النيران والدخان، فالطفولة ذُبحت وستُذبح على مر السنين وستترك خلفها خيبات  لا تُنسى.
إن الكثير من القصص جاءت تحمل رمزية الشيء ببعديه الواقعي والرمزي على حد سواء، كما في قصة "قلم"، إذ كان يرمز القاص بأنسنتهُ المقصودة للشيء الجماد- القلم لذاتية الإنسان ومدى ضياعه ونجاته بين تجاربه الحياتية التي يختبرها والمتخمة بالفرص وربما الخيبات والأمل المتتالية.
أما في قصة "طائر الكناري الوحيد" التي اجترت منها عتبة العنوان الرئيسة للمجموعة القصصية فقد اجتهد القاص بمهارة في رسم صورة رمزية تجاوز من خلالها الأشياء المادية والواقع المجرد ليعبر عن أثرها العميق في النفس، ويعرب عن كم المشاعر الهائلة ليصل إلى مناطق خفية غائمة في الروح لا يعي مداها إلا الشخص المعني.
فطائر الكناري المناط بصفة "الوحدة" قد تجسدت بمفهومها الجوهري العميق عبر الصورة الرمزية المرسومة للحدث ذاته، فقد يتبادر في ذهن القارئ لوهلة ربما إن من كان وحيداً حقاً بين جدران الصمت هو ذاته من كان يتابع عن كثب تحركات الكناري وسكناته والتفاتاته تجاه أنثاه المرتكنة بجانبه خلف قضبان القفص الذهبي، بل ويستأنس بمغامراته وشغبه أيضاً، لا ببساطة يرى فيه إنعكاس صورته على مدار السنين التي جمعته مع  زوجته.
كان طائر الكناري الرمز الحي الذي جسد مأساته بحذافيرها كأن لسان حاله يقول: "ها أنا ذا ذات الكناري المرتكن للألم والعزلة بين خلجات نفسه بعد أن عانى تسلط  الزوجة المتمردة المتطلبة وجشعها بأمواله واستمتاعها بتعبه وشقاءه، وبعد أن استنفذ كل حيله تجاهها للمضي قدماً في الحياة وتسيير المراكب المتعطلة على موانئ الخذلان، مستخدماً كل لغات الأرض لكن ما باليد حيلة فالقطيعة والانصراف للخيبة في بعض الأحيان يكون انسب الحلول وأرجح القرارات.
إذ تمكن القاص من أن يفصح عن مشاعر وهواجس الرجل تجاه أنثاه بسلاسة متخذاً من "طائر الكناري الوحيد" رمزاً حياً لأقصوصته، وكما ذكر درويش الجندي أن "الصور الرمزية تبدأ من الأشياء المادية على أن يتجاوزها الكاتب ليعبر عن أثرها العميق في النفس، وصولا إلى المناطق اللاشعورية ولا ترقى اللغة إلى التعبير عنها إلا عن
طريق الإيحاء بالرمز المنوط بالحدث".
ومن الجدير بالذكر أن هذه المجموعة تجسدت عبرها إنسانية واقعية تحت وطأة ظروف صعبة مستمدة بعضها من خيبات الحياة مثل طفولتها وشبابها وحروبها وبهجتها، متخذاً من جماليات النهايات المفتوحة وهي الركن الأهم في تشكيل بنية النص الإبداعي، وسيلة تشويقية وحماسية تثير استدراك القارئ ويمنحه المساحة الكافية للتأمل والتأويل واستحضار طاقة السؤال التي لا تترك له مهمة الحكم عليها وحسب، بل تساعده في تحفيز مخيلته كي يكون منتجاً ونشطاً وفاعلاً كمتلقي كما في أغلب القصص التي امتازت بنهاياتها المدهشة ومفارقاتها الرائعة.
فقد أولى القاص الخاتمة وهي عتبة الخروج أهمية بالغة.
وكما ذكرت عالية صالح "أن عتبة الخروج الخاتمة تتميز عن المدخل من حيث بلوغها لا يعني نهاية القص، مثلما تعني المقدمات والمطالع والعناوين بداية النصوص، لأن القارئ يظل مشغولاً بالنص بعد خروجه منه، فالخاتمة تغلق النص ولكنها لا تغلق اشتغاله في أذهان القراء، فكما جاء في عتبة الخروج لقصة "الجثة": "توقف طويلاً وفكر ملياً واختار اخيراً احدى الجثث ومضى بها نحو بيت صديقه الاثير الذي اغتالته مخالب الغدر وعهر الخيانة".
المجموعة اتخذت من النهايات المفتوحة أسلوباً مميزاً، ومن الرمز وسيلة للتعبير الفني، وطرق القاص مواضيع لها بعد واضح مثل الحب والخوف والقمع السياسي والمجتمعي بعيداً عن الرتابة، رافضاً التصريح المباشر، وراغباً بالتجدد ومبتعداً عن التسطيح في الفكرة والسعي وراء التعميق وتكثيف الصورة.