د. نادية هناوي
خضع السرد على طول تاريخه وبكل ما فيه من أنواع وأجناس إلى المحاكاة بدرجاتها التي تنوعت مع تنوع الحضارات وتقدمها. ولم تكن هناك أية مشكلة في توظيف اللامعقول والاستحالي في القصص والحكايات، لكن هذا التوظيف انحسر تدريجياً مع علو كعب الرواية الواقعية التي بتشكلها الإجناسي وبالنظر إليها فن العصر الحديث غدت الواقعية هي المذهب المهيمن والمعبر عن حداثية الرواية. وصار الفرد هو الفاعل فيها، والمجتمع هو المحرك لها، والحقيقة هي مطلبها.
وما بين ثالوث الفردية والواقعية والحقيقة وقعت الرواية، بعد أقل من مئة عام على تشكلها الإجناسي، في أزمة فنية، لم تستطع أن تتخلص منها إلا بالتخلص من شرك واقعيتها فيظهر مؤلفها ويصبح اللاواقع طريقاً إلى واقعيتها وبطبائع مزدوجة وأساسية لحركية حياتها. وما عادت تلك المهمة التي يراد فيها من الروائي التعبير عن معاناة الفرد عبر إعادة تصوير واقعه بالضرورية ولا المجدية، وإنما صار لزاماً عليه أن يستثمر التخييل إلى أبعد ما يمكن من اللاممكن فيذهب إلى التاريخ ويخترع زماناً خاصاً به من خضم الأحداث التاريخية، معبراً من خلاله عن معاناة الفرد والمجتمع. واليوم يأخذ هذا النزوع اللاواقعي حيزاً واضحاً في الرواية العربية.
وإذا كانت واقعية الرواية العربية في القرن العشرين هي غيرها في القرن التاسع عشر، فإن واقعية القرن الحادي والعشرين هي غير واقعية القرن العشرين. فقد صار للروائي أن يشكل قواعده الخاصة، مكتشفاً منافذ جديدة من دون أن يكون وجوده محسوساً به، وقد يتدخل بصور وأفعال وأقوال تذكِّر القراء بأنه حاضر كذات فاعلة ومتفاعلة.
وقد اعتاد منظرو السرد الكلاسيكي القول إن لذات المؤلف صورتين؛ ذات مؤلفة متوارية عن الأنظار، تُباغت بالظهور حيناً وتنزوي حيناً آخر، وذات ثانية مضمنة في سارد بضمير الغائب أو ضمير المتكلم أو المخاطب. ولكن هذا الاعتياد تغير مع منظري السرد ما بعد الكلاسيكي، وفي مقدمتهم واين بوث الذي يعد من أوائل الذين رفضوا فكرة موت المؤلف وقال بفكرة مضادة في كتابه( بلاغة الفن القصصي) 1961 وهي أن للمؤلف ذاتاً ثانية ضمنية داخل السرد. وحدد في دراسته الموسومة( قيامة المؤلف الضمني: لماذا نهتم؟:A companion to narrative theory, Resurrection of the implied author : why bother?,) ثلاث مسائل في النظر إلى المؤلف على مستويي الداخل السردي وخارجه:
العامل الأول هو توسيع نطاق الموضوعية في السرد، والعامل الثاني: تفادي القراءة الخاطئة للدارسين في التفريق بين صوت المؤلف وصوت السارد. والعامل الثالث إهمال النقاد للآثار الأخلاقية المترتبة على تغييب المؤلف مما سماه المحنة الأخلاقية. وهذه المسائل الثلاث قادته إلى مسألة رابعة هي الربط بين العالمي والمحلي، مؤكداً أن في إحياء المؤلف تشويقاً يتحقق عبر انضمام القراء إلى المؤلف مشاركين من ناحية كونهم ذواتاً مبدعة في إتمام العمل السردي. وهو ما نجده متحققاً في السرد الواقعي حيث ذات المؤلف لها صورتان ممكنتان ذكرناهما آنفاً ولكن هناك صورة غير محتملة للمؤلف تتحقق في السرد غير الواقعي حيث لا واقع حقيقياً لها فهي افتراضية وفيها يتوحد وعي المؤلف بالسارد لا تشاركاً، بل تعارضاً فلا الأول يصنع الثاني، ولا الثاني ينوب عن الأول، إنما هما وعيان متضادان اجتمعا في عقل واحد ازدواجاً أو تواشجاً. فتتعقد العملية السردية بسبب زخم التمثيل اللامحاكاتي لكن من دون إشكالية في عمل السارد الذي يؤدي وظيفته بإيجابية بينما يكتسب المؤلف حيوية فيواجه القراء متخفياً وفي الوقت نفسه يوجههم حاضراً.
وهذه العملية هي ما نسميها( حيوية المؤلف Author Vitality) فيكون السرد الواقعي نتاج الوعي بالواقع، وأداته هي المحاكاة بينما يكون السرد غير الواقعي نتاج الوعي بالتخييل وأداته هي اللامحاكاة. وكلا السردين يريد تصوير الحياة لكن أحدهما يصور الحياة واقعياً، والآخر يضاد الواقع تصويرياً. فتكون للمؤلف حيوية أولا كسارد هو كينونة نصية، وثانياً كمسرود مرهونة كينونته بالسارد داخلياً وبالمؤلف خارجياً، وثالثاً كمؤلف يوجد قبل النص مبدعاً وداخل السرد غائباً وخارج السرد قارئاً. ومن محصلات حيوية المؤلف الموثوقية في الصوت السردي فإذا ما استبدل السارد أدواره أو أوضاعه واضطرب خط السرد الواقعي وغدت العملية السردية معقدة وغير طبيعية، فإن تناغم عمل الفواعل السردية الأخرى سيجعل الحبكة متناغمة فلا تقاطع أو تعارض بين عمل السارد وفعل المسرودات.
وبحسب جوناثان كولر فإن السراد هم ( راوة قصص storytellers ) يتجنبون السؤال المحتمل: ما أهمية ذلك؟ ? so what عبر جعل القراء يتساءلون: ماذا تضيف هذه الحكاية أو ما قيمتها ؟ وهذا هو ما( يمنحنا المتعة والرغبة في المعرفة فنفهم العالم من حولنا ) بحسب كولر . وبذلك تدعم واقعية السرد لا واقعيته. وإذا عددنا موثوقية السرد الواقعي درامية، فإنها في السرد غير الواقعي خبرية، ولها دور في نسج الحبكة التي بها تتأكد جمالية الرواية وقيمتها الفنية.
ووفقاً لرولان بارت فإن التخييل كلام و( لا وجود لكلام إلا حيث تشتغل اللغة بصراحة وكأنها تلتهم الأطراف الناتئة المتحركة من المفردات وعكسها الكتابة فهي متجذرة في ما وراء اللغة). وما اتخاذ القرار بكتابة رواية سوى اتخاذ موقف لغوي من الواقع بوصفه حياة أو تاريخاً أو فضاء أو زماناً. وما من موقف لغوي إلا ويحوي ضروباً من الأفكار التي يهيئها الواقع كحاضر أو الواقع كذاكرة فيتم العمل عليها، وحولها تدور الأحداث، التي فيها التخييلي قسيم الواقعي. ومثما أن لغة الكتابة تعلن عن نفسها كما يقول بارت، فإن الرواية تعلن عن نفسها بأنها هي الحياة، ولا يشترط في ذلك أن تكون مطابقة لها في شكلها ومحتواها، إذ قد تشير إلى نفسها بشيء مختلف عن محتواها. وذلك يعتمد على طبيعة الروائي والطريقة التي بها يحبك الأحداث والشخصيات ضمن زمكانية محددة وبتمثيل نصي يفترض فيه التعالق ما بين التخييلي والواقعي. وما من ضابط لنسبة التخييلي من الواقعي سوى ( المؤلف) الذي بحيويته يوازن بينهما ولا فرق بين أن يكون مختفياً أي قابعاً في الما قبل أو كان حاضراً بميثاق سيري داخل السرد أو كان خارجه ولكنه يباغت السارد بين الفينة والأخرى على مستوى ميتا سردي.