حازم رعد
من منطلق تعريفنا للفلسفة بأنها "تفكير عقلي في المجال العام بحسب طاقة الإنسان، نقدم هذا المشروع الذي أجده ناجعاً لشغل أكبر حيز من الفضاء العام بالأفكار والمقاربات والنشاط العقلي، وهو ما نسميه بعقلنة المجال العام والذي سنتعرف عليه في ثنايا بحثنا في تفصيلات هذا المشروع الذي قد نسميه بـ "المشروع الفلسفي" أو " الفلسفة في المجال العام"، وكلا التسميتين يؤديان نفس الدلالة والغرض.
المجال العام هو الفضاء العمومي الافتراضي أو المادي الذي يجتمع فيه الأفراد وعلى الخصوص "طبقة المجتمع المدني" للتباحث والنقاش في مسائل وقضايا ذات شأن عام واهتمام مشترك بين المواطنين.
ومما لا شك فيه أن المجال العام يرتبط بمفصلين وطبقتين من طبقات المجتمع، الأول طبقة السلطة، والأخرى طبقة عامة الناس أو ما يسمى بطبقة المجتمع الاهلي، ولحاجة المجال العام والطبقات الأخرى إلى رؤية عامة شاملة عن طريقة الممارسة وسياسة تدبير الدولة والسلطة وشكل الحياة وتصورات عن طبيعة النقاش في القضايا الهامة المشتركة، كان لا بد من وضع مشروع فلسفي متعدد الخطوات والأبعاد، غرضه نشر وتكريس وإرساء العقلانية الفلسفية في الواقع وإحداث تواصل وتوافق بهدف الاستقرار والسلم الأهلي والمجتمعي والحياة المشتركة بين الذوات. إذن لابد علينا أولاً من تحديد خطوات ذلك المشروع وتفصيلها بما يضمن وضوحها وانسجامها مع الهيكل العام للمشروع والطبقات الواقعة تحته. وعليه تكون الخطوة الأولى في ربط الفلسفة بالمتلقي العام اي بإنزالها من بروجها العاجية "فضاءات النخبة والأكاديميات" من خلال فك الفلسفة من حبسها خلف الأسوار الأكاديمية الرسمية والنزول بها إلى الواقع، وهنا لا بد من العمل على ثلاثة محاور:
اولاً: جعل الفلسفة متاحة للمتلقي والجمهور العام "أي إيجاد فرص ومنصات" لنشر الأفكار الفلسفية بين الناس، وأهمها تعميم الطريقة العقلانية في التفكير ونشر قيم الاعتراف بالآخر وعدم الغائه ونشر قيم المساواة والتسامح وما الى ذلك من قيم وأفكار فلسفية، وهذه الخطوة تتزامن مع محاولة فك الفلسفة من حبسها خلف الاسوار الأكاديمية، أي أن تتحول بوصلة المشتغلين بالفلسفة الى المجتمع والواقع، بدلاً من اختصارها بالدرس الاكاديمي داخل المؤسسات الرسمية.
ثانياً: نزول النخب الى المجتمع وتخفيف لغة الفلسفة للناس او تقديمها بلغة قريبة من فاهمتهم او بطريقة يمكن لهم استيعابها، ويكون ذلك عبر عقد الملتقيات وتكثيف الامسيات والمؤتمرات وإثخان الواقع الاجتماعي بالملتقيات الفكرية والفلسفية والمشاركة في المنتديات والمجالس الثقافية والفكرية وإصدار الصحف والدوريات والمجلات.
ثالثاً: اعتبار الدرس الفلسفي منهجاً رسمياً حكومياً يقدم ويدرس الى التلاميذ في مراحلهم الدراسية الاولية، بدءاً من الابتدائية مروراً بالمتوسطة فالإعدادية، باعتماد مناهج وطرق تدريس تنسجم مع الأذهان العمرية المتنوعة والمختلفة لتنموا الفلسفة وتنتشر مع نموهم الذهني والعقلي، وتكون الأفكار الفلسفية جزءا من حياتهم، ولهذه التفصيلة ارتباط في الخطوة الثانية كما سنعرضها لاحقاً.
أما الخطوة الثانية فهي ربط الفلسفة بالسلطة من خلال إلفات نظر السلطة الى أهمية الفلسفة، وأن تعتمدها السلطة لا أقل على مستوى الاستشارة، بل واستخدام أدوات البحث الفلسفي وأفكار الفلسفة في معالجة القضايا العالقة والإشكالات الراهنة واعتماد طريقة الفلسفة في التفكير "بحرية وحياد وتجرد وعقلانية"، كطريقة حصرية لتفكير مؤسسات السلطة وكما يقول أحد الفلاسفة "إن السلطة لها شرعيتها فقط في خدمة العقل، وهي وحدها تأخذ معناها من هنا" فإن ذلك يكفل تحسين مستوى الاداء والجودة لنشاط السلطة النظري والعملي، ويرسخ معيارا واحدا متساويًّا للسلطة بالنسبة الى لأفرادها، سيما ونلاحظ كيف أن البلدان التي اعتمدت على الفلسفة وطورتها وأولتها الاهتمام، خطت قدماً في طريق التقدم والازدهار والاستقرار والسلم المجتمعي والعكس بالعكس.
بينما تمحورت الخطوة الثالثة حول ربط الفلسفة بالمجال العام، من خلال اعتماد ادوات ومناهج التفكير الفلسفي كأدوات ومناهج للمجال العام في نقاشه وتفتهماته على القضايا المشتركة ومسائل الشأن العام، مثل اعتماد "التواصل والحوار والتحليل والنقد والمراجعات التصحيحية وتركيب الموضوعات" بين ذوات طبقة المجتمع المدني، وذلك حتى يكون المجال العام قد استند إلى أفكار ناضجة وأدوات صحيحة ومناهج صالحة، وحينما تقدم الى السلطة كمخرجات للحوار داخل المجال العام تكون مقبولة وكذلك مؤثرة لا يرد عليها وعندئذ ستكون معبرة بحقيقة عن طموحات الجمهور، وإرادة المجتمع الذي يمثله المجال العام وطبقة المجتمع المدني، التي هي تتوسط طبقتي السلطة من جهة والمجتمع الاهلي من جهة ثانية. وبإتمام هذه الخطوات الثلاث نكون قد حققنا مشروعاً فلسفياً، ولو بشكل نسبي يعبر عن الواقع وإرهاصات الراهن، ويلبي طموحات الأفراد بتحقيق مجتمع مدني عقلاني تكون ارائه ومطالبه محل احترام وتقبل.