طالب كاظم
في مراجعة للنصوص والمدونات البابلية، ندرك التأثير الكبير الذي أحدثه الدين في حياة البابليين، سنكتشف أن نعتنا معتقداتهم الدينية ووصفها بالوثنية فيه تعسف شديد، ينال بغير حق من قدراتهم الفكرية إذا ما عرفنا أن المفكرين اليونانيين، تلقوا درسهم الفلسفي الأول تحت ظلال أروقة المعابد البابلية كفيثاغورس، الذي نسخ الفلسفة البابلية ورياضياتهم المتقدمة ونقلها إلى اليونان.
إن بذرة الفلسفة ترعرعت في المعابد البابلية، في بحث الكهنة الدؤوب عبر اشتغالاتهم اللاهوتية، للإجابة على الأسئلة التي شغلت تفكيرهم، فالآلهة ولغز الوجود والعدم، بل والمغزى العميق من الوجود الإنساني برمته، كانت محطات لإشغال التفكير، الذي استنفد الكثير من وقتهم، في حياة تحتشد بالتأمل الروحي مع تجربة فكرية لم تزل بعد في خطوتها الأولى على سلم الفكر الإنساني الذي لم يبلغ بعد سن الرشد. إذ كان في طور التشكل والنمو، وتحت تأثير عقائد غنوصية نمت داخل شرنقة السحر والغيبيات، التي شغلت التفكير الفطري، حدثت المواجهات العميقة التي من شأنها أن تولد تصورات جديدة تدفع بالإنسان إلى محاولاته الأولى لفهم عالمه والغموض الذي يحيط به والانتقال بتفكيره الى خطوة أكثر عمقا، ولكن يظل الهاجس الديني العميق هو المؤثر الغائر أو الغائب الحاضر، الذي يتحكم بتشكيل فهم وتصورات البابلي للوجود، وبالتالي فهمه للعالم الذي ينتمي اليه، مع اخفاقه في اكتشاف وسائل أكثر جدوى تمكنه من تفسير ظواهر ارقت ليله طويلا.
لقد اضطر نتيجة لبدائية أدواته فيها إلى تفسير الظواهر الطبيعية بوصفها حيوات تتحكم بها قوى خارقة، فتساقط المطر يحيله إلى وجود الهة تبكي لأنها كانت تستعيد ذكرى حزينة مرت بها بتاريخ محدد، وهو الأمر الذي يفسر التوقيت المعتاد والذي لا يعرف شذوذا، الذي يسير مواعيد موسم المطر، والأمر نفسه ينطبق على الظواهر الطبيعية الأخرى. فنشأ اعتقاده الراسخ بأن ثمة اله عظيم يتحكم بكل تفاصيل الحياة، وهذا الإله متطلب، سريع الغضب ولا يمكن مداهنته بالأكاذيب، ولكن يمكن مراوغته بتقديم القرابين والتقدمات والاضاحي على سبيل الرشوة المهذبة، حتى مع وجود مجدفين لا يتورعون من تحطيم الههم بتكسيره في ميدان المدينة، بعد تجريده من القابه المقدسة وطرده من حرم المعبد.
وهو ما يحدث دائما مع الهة معابد القرى لأنه لم يقوم بما يتوجب عليه من أجلهم ـ انقاذهم من الطوفان أو الجفاف مقابل الخدمات الجليلة التي يقدمونها له، يمكنكم تصور ما سيلقاه كاهن المعبد على يد جموع الغاضبة، لأنه سينال علقات ساخنة، تجعله يفكر الف مرة قبل ان يعود لمزاولة مهنته المريحة، وتكون ترجمة هذا الفعل على الوصف الاتي "الولي الذي لا يظهر كراماته هو ولي لا يستحق التبجيل، نستطيع أن نكتشف إن تلك العقائد وهي تنطوي تحت مفاهيم كانت تتغير باستمرار باختيارها لأولياء وقديسين جدد، يزيحون من سبقوهم بحكم تأثيرهم في المخيلة الشعبية، فاحدهم يظهر كراماته حتى بعد مرور قرون عديدة على موته، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره وفقا لعقائد أسلاف يقومون بتاليه شخص ما، كأن يكون الملك لبطولات تتحول بمرور الوقت لأساطير فلكلورية، فالذاكرة الجمعية الفولكلورية توارثت تلك الأساطير واكستها مفاهيم وتصورات جديدة، بعد أن أقصيت تصورات مهدت لولادة هذه الشخصية أو تلك، وهو الذي يحدث غالبا، فالدين وشعيرته الميثولوجية حاضران ومؤثران في الوجدان الشعبي الذي يستعير المقدس من التاريخ، لأنهم غالبا تواقون لشخص يقدمونه على أنه أيقونتهم المقدسة، ومرشدهم ومخلصهم، الذي سيرشدهم الى عالم أكثر سلاما، ورمزهم المقدس الذي سيقربهم إلى اله لا يعترف إلا بأشخاص اختارهم بعناية ليكونوا شهوده.