همومُ الكتابِ الورقي وتلويحاتُه بالوداع

ثقافة 2024/05/27
...

  صلاح حسن السيلاوي

كأننا على مفترق هذا الطريق، حيث الكِتاب الورقي يلوح بصفحات يديه الكريمتين لعشاقه القدامى، والقراء يبتسمون له متهامسين متفرقين، وهواتفهم مفتوحة على مواقع الصحف والمكتبات الالكترونية.
رائحة الورق تفارق ذاكرة الباحثين عن المعرفة، بعد مضي القراءة في طريق الانشغال بعالم الصور والنوافذ المشرعة على بعضها، حيث الحواسيب مزدحمة بالتطبيقات المتوالدة.
إنها القراءة التي كانت وما زالت سبباً في صناعة الذوات المتفردة، وصعود المجتمعات على سلالم العلم والفلسفة، القراءة التي تمر اليوم بأزمة أنتجها اندهاشُ الإنسان بجديد الذكاء الاصطناعي، للدرجة التي أصبحت معها القراءةُ تؤسس تقاليد جديدة، إذ اعتمد القراء على مبادئ التكنولوجية الحديثة في تلقف المعلومة، والطمأنينة إلى المكتبات الالكترونية المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي.
تقاليد تدخل القارئ في عالم جديد، وتضيع عليه عالما اعتاد عليه، فلم تعد القراءة همّاً يومياً، ولا سؤال (ماذا قرأت البارحة) سؤالاً متداولاً في الوسط الثقافي.
كأن العالم يعيش هزة ثقافية لا يعرف ما يؤول إليه بعد آثارها، إذ صارت الصورة بديلاً آخر عن الكتاب، كأن المجتمعات تدخل في نفق انصهار معرفي، لا تعرف طبيعة نتائجة، من هنا أتساءل: هل يعيش مجتمعنا أزمة تراجع القراءة؟ ألسنا بحاجة إلى أهم الكتب الحديثة التي تصدر بلغات متعددة في العالم؟ من يفتح نوافذنا على المؤلفات في أهم العلوم والمعارف؟ من ينبؤنا بصدورها أو يوصلها إلينا؟ ماذا عن الكتاب المترجم من وإلى العربية واللغات الأخرى؟ هل يمثل سوق الكتاب الحالي صورة حقيقية لما ينجز في خارج العراق وداخله؟
لماذا أصبح عرضُ الكتب أمراً نادراً في الصحافة العراقية، بينما كان يمثل دليلا إلى أهم الإصدارات وأحدثها؟ هل يعد الأمر مظهرا من مظاهر تردي القراءة، أم أنه شكل من أشكال تراجع الصحافة الثقافية؟ ألم يكن عارض الكتاب نتاجا لتراكم المعرفة، وأصبح غيابه يمثل فراغا في هذا الجانب؟
هذه التساؤلات وغيرها، سنبحث عن إجابات لها مع نخبة متميزة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع.

فراغ في الحقل المعرفي
الناقد الدكتور رشيد هارون، ابتدأ رأيه بالحديث عن عرض الكتب إذ رأى أنه فن وعلم، مشيرا إلى أن عارض الكتب يجب أن يحمل سمات خاصة ذاتية ومعرفية، ولا يشكّ هارون بأن لعمله أهدافاً ووظائف لم ينتبه إليها كثيرون، ولذلك قلّما يتم الحديث عن جهوده، وفي حال غيابه، قلما يتم السؤال عنه وعن الفراغ الذي يمكن أن يشكّله في الحقل المعرفي، لاسيما في ظرف كالذي نعيش، الذي ينشغل القارئ إبانه بالمعلومة التي لا تستند إلى الكتاب الورقي المقروء بعناية، وتفرّغ ذهن، وصفاء فكر.
وأضاف هارون موضحا: عارض الكتب يمتلك ثراء نفسيّاً ومعرفيّاً وذوقيّاً يتصل بطبيعة الكتاب المعروض وندرته وأهميته، أما الثراء النفسي فيتيح له تقديم المعلومات والمعارف التي بذل لها الجهد والوقت ليلخصها على نحو غير مخل، وعلى نحو يحقق الهدف من عرض الكتاب الذي يتجلّى في أفكاره الأساسية، وأما الثراء المعرفي فيدلّه على النفيس من الكتب فضلاً عن أنه يدلّه على اللب من معلوماته التي يرى بأنها جديرة بالعرض والتقديم إلى القارئ وكل ذلك تديره ذائقة فذّة وحس بأهمية ما يجب أن يعرض.
وإذا كنت قد أجبت عن مَن الذي يمكن له أن يعرض الكتب وسماته؛ أخوض في سؤال يتصل بالزمن (متى) فعرض الكتب يتطلب مراناً في القراءة المعمقة الهادئة المستقرئة لذلك غالباً ما يعرض الكتب أولئك الأشخاص الذين قطعوا شوطاً طويلاً في التعامل مع الكتاب، وإقامة علاقة نفسية فكرية معه للحصول على المعلومات والقدرة على الاحتفاظ بها ومن ثم بسطها عن طريق منهجية وكيفية خالية من الارباك والتعقيد.
إن ندرة عارضي الكتب هذه الأيام تؤشّر غير منحى يشي بخطورة ما، قد تتصل بشعور يتجلّى بعدم أهمية هذا الفعل الثقافي والوظيفة المسندة اليه، أو ندرة الأشخاص الذين يمتلكون سمات خاصة للقيام بهذه المهمة التي تتطلب ما تتطلب من جهد وصبر وأناة ونكران ذات لجعل المعلومات مشاعة ومتاحة لأكبر قدر من القرّاء ، وفي كلا الحالين نحن بإزاء مشكلة لا بدّ من ألفات الانتباه إليها!

هيمنة التكنلوجيا الحديثة
الشاعر عبد الهادي عباس، تحدث في بداية إجابته عن هيمنة التكنولوجيا المعاصرة وسلطة الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) وكيف أحالت التوجهات الحديثة إلى القراءة الالكترونية التي تتسم بسرعة الحصول على المعلومة وآنية الفعل أو لحظويته، مشيرا إلى أن ذلك أزاح مفهوم القراءة بمعناها الأكاديمي إلى قراءة من نوع آخر، يمكن لنا أن نصفها بالاستهلاكية كما هو الحال بكل الثقافة الاستهلاكية المعاصرة.
ثم ذهب إلى الحديث عما أسماه بظاهرة التراجع الثقافي فقال: هنا يمكن أن نؤشر إلى أن ظاهرة التراجع الثقافي والمعرفي في المجتمع العراقي تنسب إلى التراجع الكبير في نسبة القراءة.
اننا في الوقت الراهن نعاني فعليا من ازمة القراءة وهذه الأزمة هي أزمة تردي لفعل الاستجابة للكتاب وهو ما ينسحب بالضرورة على فاعلية الصحافة الثقافية، ولكن الامر لا يخلو من مسؤولية الصحافة نفسها ودور النشر والطباعة والتي قد يشكل فيها المردود المادي ثقلا كبيرا لديمومة عملها الامر الذي جعلها تتجه إلى الميديا والثقافة الالكترونية عبر المتصفحات الالكترونية العديدة لضمان فاعلية الانتشار والكسب المادي على حساب ثقافة الكتاب المقروء.
ثم أجاب عباس عن سؤالٍ يخص مدى أهمية عارض الكتاب بوصفه نتاجا لتراكم القراءة والمعرفة في المجتمع فقال:
من دون شك أن عارض الكتاب هو نتاج لمتراكم الخبرة في القراءة والاستدلال المعرفي على المدخلات والمخرجات المهمة في حقل التثقيف المكتوب، وغيابه كان نتيجة لهيمنة ثقافة الصورة، إذ نلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي ووسائطها الميديوية أثرت بشكل كبير على جذب المتصفحين إلى نص مختصر لمقال ما عبر ثقافة صورية، بمعنى ان القراءة تحولت من استرسال لنصوص مكتوبة عبر سلسلة من الفصول والصفحات إلى قراءة صورة تختصر بدقائق معدودة نصوصا معينة، إلا أن ذلك الاختصار الصوري تشوبه سلبيات معرفية كبيرة وأولى سلبياته هو ابعاد التلقي عن المراجعات الكتابية للكتب وسطحية المعرفة.
من المؤكد أننا فقدنا بفقدان عارض الكتب المثقف، ثقافة مهمة هي ثقافة المشاركة الحوارية، لأن نافذة عارض الكتب كانت تسهم بشكل واضح بتسليط الضوء على أهم الموضوعات الثقافية التي تسكن العقل البشري فضلا عن المحاورة الشفاهية التي كانت تدور بين جموع القراء وعارض الكتب حول محتويات كتاب ما، وتلك المحاورات كانت تسهم في كثير من الاحيان بخلق مشكلات معرفية تحتاج للبحث والحلول والمناقشة، الأمر الذي يزيد من فاعلية الاستجابة للقراءة الكتابية، وهذا ما نفقده اليوم في العرض الالكتروني الذي يجعلنا نعيش حالة من الانفراد والعزلة مع الشاشة الالكترونية مما غيَب روحية المحاورة وأقصاها مع الاقصاء القسري للكتاب.
إننا نواجه حرفيا ازمة وتراجع لفاعلية القراءة، وهذا ما يجعل من المشهد الثقافي هو الاخر في أزمة كبيرة، ذلك ان هيمنة التلفاز والقنوات الفضائية والبرامجيات الالكترونية ووسائط الميديا جعل الحراك الثقافي في تسارع اتجاه التشظي وغياب تام للتمركزات الثقافية والذي يعد الكتاب واحدا منها.
وهذه ازمة مخيفة لأن فعل التشظي يرافقه بالضرورة فعل المهمش، وعملية التشظي والمهمش يقومان بتفعيل آنية ولحظوية التلقي من دون الركون إلى تراتبية منطقية في الاستجابة الادراكية للمقروء، تلك التراتبية التي يحققها لنا الكتاب من دون غيره.
 أجد ثمة مسؤولية تقع على عاتق المثقفين القراء ممن يمتلكون لغات اجنبية متنوعة، اذ يمكن لهم رفد دائرة التلقي بأهم العناوين والإصدارات التي تصدر بلغات أخرى وتحفيز فاعلية الترجمة لتلك الاصدارات فيكون حينها دليلا لنا لاستكشاف ثقافات وطروحات مختلفة.
كما تحدث عباس عن سوق الكتاب الحالي ومدى تمثيله لحقيقة ما ينجز في خارج العراق وداخله موضحا: لا اعتقد بأن سوق الكتاب الحالي يمثل الصورة الحقيقة للإنجاز المعرفي ، ذلك أن سوق الكتاب اليوم يسير باتجاه مادي صرف، بمعنى ان يغزو كتاب ما السوق نتيجة الدعم المادي له سواء كان دعما شخصيا من المؤلف او من مصدر آخر على حساب كتاب اخر لا يملك نفس الدعم، فضلا عن ذلك اعتقد بأن سوق الكتاب اليوم لا يتحرك الا باتجاه النخبة وهو دعم غير صحيح وهو يعود إلى أزمة ثانية وهي غياب الكتب التي تهم العامة او مصادر كتابية تسلط الضوء على قضايا وموضوعات تستهدف الجماهيرية بصفتها العامة وبمختلف مستوياتها.

ماركيز عارضاً للكتب
الشاعر نصير الشيخ، يعتقد أن وفرة الكتاب الورقي تمثل فرصة دائمة للحضور تداولياً، إقتناءً ومطالعةً وبحثاً عن معنى ومبنى لدى المشتغلين في حقل الكتابة والأدب.
ويعد الشيخ عرض الكتاب بنوعيه الصحفي والأدبي هوية جديدة او بوابة واسعة الدخول إلى عوالم هذا الكتاب أو ذاك.
لتتشكل فرصة تسليط الضوء على هذا الجهد سواء كان أدبيا صرفاً أو فكرياً او ثقافياً.
ومن ثم فتح نافذة أكثر جدة للاطلاع وتوفر مختصرٍ لقراءتهِ.
وعن مديات أهمية عرض الكتب في الصحافة العربية والعالمية قال: تدلنا الصحف العربية والعالمية على مساحات هامة في هذا الشأن، ومديات الدور الذي يقدمه (عرض الكتاب) في الصحف والدوريات الثقافية والأدبية.
وربما نستذكر غابريل ماركيز عنواناً جلياً، واشتغاله حد المتعة في تسليط الضوء على الكتب الصادرة حديثاً، في الصحف التي كان عاملاً فيها.
إن عرض كتاب، هي مهمة لفتح أفق واسع يسهم في جذب القراء، وبما يصبح دليلاً إلى عوالمه والرغبة في الحصول عليه.
وصدقاً كتجربة شخصية وصحفية أشعر بمتعة خاصة حين أقدم كتاباً (عرض كتاب) أكملت قراءته للتو، وصار لزاما عليّ أن اثمن جهد المؤلف عن طريق كتابتي عنه، وإبراز الكتاب متنا وفكرة لقارئ آخر للبحث عنه وربما الأشادة بأهميتهِ ، وهذه القراءة عندي تأتي بمرحلتين:
1ــ قراءة أولى يتولد عنها عرض يشكل مسحاً لطوبوغرافية النص المكتوب من الغلاف إلى الغلاف.
2ــ هي القراءة المعمقة الباحثة عن معنى وفهم وربما المستفهمة لأفكار وآراء المؤلف او الكاتب في متنهِ.
وما أكتبه من عروضٍ للكتب، حقاً وجد مساحتهُ الفضلى في صفحة (مكتبة) بثقافيات جريدة الصباح.
وبالتالي من جاء في السؤال، يشكل عرض الكتاب كمساحة صحفية وأدبية مفتاح الدخول للبحث عن هذا الكتاب، بعد الإشادة بأهميتهِ.
وهو إجراء ثقافي سليم وحيوي، لكسب أكثر عدد من القراء لتكوين فكرة عامة عنه، وبما يسهم في رفع الذائقة وتوكيد أهمية القراءة التي يتواصل مؤشرها في الهبوط وبعيداً عما يتشكل من أزمة عامة في القراءة.

جسور لطباعة الكتب وترجمتها
الشاعر عصام كاظم جري، بدأ إجابته بالإشارة إلى اهمية الكتاب بوصفه عاملا من عوامل النهضة، شأنه في ذلك شأن المطابع العملاقة والجامعات والمعاهد والمسرح والسينما والموسيقى والتشكيل..، لافتا أن سوق الكتاب العراقي لا يمثل صورة حقيقية لما ينجز في العالم، مبينا أن هذا السوق لابد له أن يرتكز إلى ممكنات تطوره انطلاقا من وقوف الخبراء في هذا المجال على رؤوس مؤسسات لابد للدولة من تأسيسها وبخاصة في مجال الترجمة والعمل على صناعة جسور ثقافية بين العراق والبلدان العربية والعالم للتفاهم حول استيراد وترجمة الكتب المهمة من وإلى العربية واللغات الأخرى، فالكتاب لا تنتهي  حدوده في بقعة معينة، ولا يصدأ لتقادم الزمن ولن يقف عند فكرتِه وطباعتِه واسم المؤلفِ ونشرهِ وتوزيعِه وتسويقه والإعلان عنه، أو نوع الورق وعدد الصفحات وعنوان دار الطباعة وغيرها، وإنما يصل إلى آلية أوسع من ذلك.  وأضاف كاظم جرّي: إن الكتاب أهم أداة للسيطرة على العقل البشري.
ولا شك أن أي مطبوع جديد هو ولادة جديدة ، مهما كان حقل وصنف هذا الكتاب؛ أدبيا، ثقافيا، سياسيا، تاريخيا، علميّا متخيلا..، والإعلان عنه أو تقديم مختصر لمحتواه، أمر مفرح للغاية.
الاحتفاء بولادة الكتب ليس بالموضوع الغريب، وإنما الغريب في الأمر هو تغافل أو تجاهل أو اهمال الاحتفاء بالإصدارات الأخيرة، هذا التغافل يثير عدة أسئلة أهمها؛ هل انتهت صلاحية الكتب من حياتنا؟ الجواب بالنفي حتما، ربما هناك أسباب أقرب إلى الواقع، منها مثلا أن بعض العاملين في الصحافة الثقافية كالصحف والمجلات لا تعنيهم موضوعة ولادة الكتب وأهمية نشر الكتاب.
إن المهنية في العمل الصُحفي، وفي كل عمل منتج وحرفيّ وصناعيّ بحاجة إلى مسؤوليّة كبيرة واهتمام ومعاينة وتواصل وتتبع كل ما هو جديد يطرأ في الوسط من جهة، والابتعاد عن إهمال كل عمل له أثر كبير بدواعي القديم والجديد وتحولات الحداثة والكلاسيكية من جهة أخرى، وربما يذهب بعض العاملين في الحقل الصُحفي إلى أن الاحتفاء بنشر الإصدارات من الكتب الجديدة صار من الماضي! ويظن بعضهم أننا الآن نعيش في زمن الحداثة، ولا بدَّ من  تغيير النمط بدوافع التجديد.
وربما بعض منهم يخضع لسياسة هذه الصحيفة أو تلك بالابتعاد عن الترويج والإعلانات في تقديم الكتاب للقارئ الكريم.. تبقى كل هذه التساؤلات ظنون وشك ولبس واحتماليات ممكنة أسئلة افتراضية أطلقُها هنا بغية الوقوف على الأسباب التي من أجلها تم أقصاء وإبعاد منشورات عرض الكتب والإعلان عنها في الصحافة العراقية الجديدة.