وفاة عبداللطيف عبد الحميد.. أرسل رسائله ومضى في طريق النحل

ثقافة 2024/05/27
...

  دمشق: على العقباني

خمسة عشر فيلماً روائياً طويلاً وعدد من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة كانت كافية لجعل اسم عبد اللطيف عبد الحميد (1954 - 2024) علامة فارقة في السينما السورية، وليس هذا فحسب فلربما كان عبد الحميد اسماً بارزاً منذ فيلمه الروائي الطويل الأول {ليالي ابن أوى} 1988 والذي نال عليه أكثر من جائزة عربية وعالمية، ثم تلاه بفيلمه الثاني {رسائل شفهية} 1991 وهو التجربة التي جعلت سينما المؤلف في الواجهة السينمائية السورية من جديد.
 وهو الفيلم الذي ازدحم الجمهور لمشاهدته مرات ومرات، وما زال حاضراً حتى اليوم، فمنذ هذين الفيلمين عرف عبد اللطيف كيف يبني جسور تواصله مع الناس، وجعلنا نتساءل ما هي تلك الخلطة السحرية المشبعة بالحب والواقعية والسخرية المرة والكوميديا التي جذب الجمهور إليه، خلطة لا يعرف أسرارها سوى عبد اللطيف نفسه، خلطة تغرف من البيئة المحلية والمكان وأنماط معينة من الناس، ببساطة مدهشة تصل حد السذاجة، وبلغة سينمائية خاصة ذات مدلولات خاصة جعلت منه علامة سينمائية مميزة
وفارقة .
عشقه للإخراج والتمثيل والخوض في عوالم الصورة والمسرح، لم يمنعه من تعلم العزف على آلة العود عندما كان صغيراً، ومن بعده الانضمام لبعثة الإخراج للدراسة بالمعهد العالي للسينما موسكو 1981 مفضلاً الإخراج على الموسيقى، فعبد اللطيف عبد الحميد والذي يمكن اعتباره واحداً من أهم رموز السينما العربية من مواليد عام 1954، خريج المعهد العالي للسينما في موسكو 1981، أنجز للمؤسسة العامة للسينما بعد عودته إلى الوطن فيلمين تسجيليين "أمنيات" و"أيدينا".
ثم عمل مخرجاً مساعداً في فيلم «أحلام المدينة» إخراج محمد ملص عام1983، وقام عام 1988 بإخراج أول أفلامه الروائية الطويلة في المؤسسة العامة للسينما بدمشق، "ليالي ابن آوى" الذي حصد مجموعة من الجوائز، منها "سيف دمشق الذهبي 1989، الزيتونة الذهبية في مهرجان حوض المتوسط بكورسيكا 1989، الجائزة الذهبية من مهرجان الفيلم الأول الدولي في انوناي بفرنسا 1990".
وجاء بعده فيلم "رسائل شفهية" عام 1991، وتتالت الأفلام التي كانت سفيرة السينما السورية إلى العالم.
استطاع عبد اللطيف عبد الحميد عبر أفلامه حصد حوالي «50» جائزة من مهرجانات عربية وعالمية، رجل مسكون بالحب والحياة والشغف والسخرية المرة والرؤية الخاصة للحياة والفن والسينما وما حدث ويحدث في البلاد خلال السنوات  الأخيرة، اذ تبدو تيمة الحب أساسية في كل أفلامه، منذ رسائله الشفوية التي كان يرسلها إسماعيل لحبيبته سلمى مع رفيقه مروراً بفيله الجميل "العاشق" وحتى "عزف منفرد" و"أنا وأنت وأمي وأبي" و "طريق النحل" وفيلمه الأثير حباً "نسيم الروح" وصولا إلى أخر أفلامه "الطريق" حيث العاشق المراهق البريء وتعلمه وسفره ثم عودته للقرية طبيباً، شخصيات مشبعة بالحب والعطاء والايثار والجمال والحلم برغم معاناتها سواء في الطفولة أو في الكبر، فهو رجل ينتصر للحب في السينما والحياة، حتى موته فيه مسحة نبيلة من الحب والوفاء عبر حزنه على زوجته لاريسا التي رحلت قبله، فهو كان على الدوام يقدم لنا في أفلامه تلك الجرعات الرومانسية لكنها المشبعة بالوجع والقسوة، إنها صفات تشبه روحه ومشاعره الإنسانية الوقادة وحضوره العميق في أرواح كل من عرفه وعايشه وشاهد أفلامه والتقط أسرارها وعمق حبها للناس والحياة.
علاقته الملتبسة بأمه والتي رحلت مبكرا ووالده تركت في نفسه أوجاعاً وأسئلة،    كانت صعبة على طفل السبعة أعوام ومصيره المجهول وهو يقطع الوديان وصولاً إلى المدرسة، طرقات ومسافات جعلته يكتشف قسوة الحياة والطبيعة مبكراً، وشاهدنا ذلك في العديد من أفلامه، فهو دائم العودة إليها وإلى تلك البيئة البكر والمشاعر البكر والخوف من العقاب والطبيعة والحب... ومن ثم تلك الفجائع والمفارقات  التي  ستحل بتلك الشخصيات في مفارقة صادمة بين البداية والنهاية، وسنجد ذلك جلياً في (ليالي ابن آوي) و(رسائل شفهية) و(صعود المطر) و(نسيم الروح) و(قمران وزيتونة) و(ما يطلبه المستمعون) و(أيام الضجر) و(مطر أيلول) و(طريق النحل) و(عزف منفرد) و(الطريق) .. ومن ثم تناوله الحالة السورية في أفلامه الأخيرة من خلال "الإفطار الأخير" و"أنا وأنت وأمي وأبي" رثائات موجعة لأزمان ومشاعر وأحوال وأشخاص وحالات، لغياب وحضور وموت، وهو كاتب سيناريوهات تلك الأفلام وحيداً أو مع أصدقاء، حيث كانت متعة الكتابة لديه برغم صعوبتها توازي بل وتزيد عن متعة الإخراج.
بصمات عبد اللطيف على السينما السورية والعربية وتأثيرها، رسمها لقطة لقطة ومشهداً مشهداً وفيلماً فيلماً، عبر تحولات كثيرة في رؤاه السينمائية وتطلعاته واختياراته واشتغالاته على أفكار تتمتع بالطزاجة والحب والسخرية والكوميديا بمعناها الواسع والمزاوجة بين الريف والمدينة في علاقة متداخلة وأحياناً تضادية، صاغها ساحر الجماهير وحاصد الجوائز المحلية والعربية والعالمية، بدءاً من أيام الدراسة في موسكو وانتهاء بتكريم فيلم "الطريق" في العديد من المهرجانات العربية والعالمية، وأنا الذي استلمت عنه في أيام قرطاج السينمائية وحدها أربعة جوائز عن هذا الفيلم..  وبرحيله برحيله اليوم تفقد السينما السورية والعربية أحد أسمائها البارزين  
والمؤثرين.