حسن الكعبي
تميزت التجربة السينمائية العراقية ضمن القطاع العام في فترة السبعينيات بإنتاج الافلام الوثائقية، التي حظيت باهتمام عالمي وحصدت جوائز دولية في المهرجانات العالمية التي شاركت فيها كمهرجان (لا يبزغ) و(موسكو)، و(كارلو فيفاري) و(طشقند)، و(قرطاج).
وكان المخرج الكبير الراحل كارلو هارتيون من بين المخرجين العراقيين المتميزين في صناعة هذه النوعية من الافلام، ونتاج لهذا التميز وموهبة هارتيون الفنية، فقد التفت الى تجربته الناضجة، مخرج كبير من طراز يوسف شاهين الذي عرض عليه العمل معه، ولم تتوقف تجربة هارتيون عند صناعة هذه النوعية من الأفلام، بل إنه عمد الى تجربة فريدة آنذاك في صناعة الافلام الروائية الطويلة التي اضطلعت بها وحـدة الانـتـاج الـسـيـنـمـائـي العراقي دائرة الانتاج الروائي الطويل، ويؤكد الناقد - جان الكسان - على ان هارتيون توفر على انجاح الخطوة الاولى بفيلمين همـا (الـلـوحـة) 1978، و(البنـدول) 1979, وخصوصا فيلم اللوحة الذي اصبح من الافلام الملهمة لمخرجين آخرين، بينهم منذر جميل الذي انجـز عام 1979 فيلمه الروائي الاول (تحت سماء واحدة) .
اللوحة من الاستوديو الى فضاء الحياة
يعتبر فيلم اللوحة الذي مثل فيه جلال كامل، وسليمة خضير وغازي التكريتي وآخرون، وكتب السيناريو له معاذ يوسف، من الأفلام التي تنتمي للدراما الاجتماعية ويتناول في إطار من الحركة والتشويق مشكلة الشباب المراهق وصدامهم مع محددات السلطات الاجتماعية، التي تمثلها مؤسسات التعليم والمؤسسة الاسرية.
طرح الفيلم هذه الإشكاليات من خلال شخصية عدنان (جلال كامل ) وهو شاب فقد والده في صباه، فتكفلت والدته (سليمة خضير ) بتربيته والاهتمام به على نحو مبالغ به، وقد كان هذا النوع من الاهتمام سببا اساسيا في نزعته التمردية وانعزاله عن محيطه الاجتماعي، وتبدأ بوادر هذه النزعة لديه، من خلال صدامه مع مدير مدرسته، الذي منعه من اشغال احدى غرف المدرسة كمرسم له ولأصدقائه، وعلى الرغم من ان المدير يمتلك وجهة نظر صارمة تجاه المواهب الفنية، لكن لديه مبررات مقنعة بصدد الغرفة، الا أن عدنان يرفض أي تبريرات ويوجهها بالتمرد وكأن اللوحة التي تختفي تماما من مشاهد الفيلم هي بمثابة ترميز لمكبوتات عدنان وعنفوانه وتمرده ضد كل اشكال السلطات .
يطال تمرد عدنان محيطه الاجتماعي من الاصدقاء وينتهي تمرد عدنان بالصدام مع عمه، وافتعال شجار مع ابن عمه فيودع السجن ويطلب منه الاتصال بأحد معارفه ليتكفله، وتبدأ في حيز السجن الذي يمثل رمزا للضغط السلطوي في كبح الحريات، مراجعة عدنان لتصوراته وضرورة الامتثال لنوع من انواع السلطات والقوانين الاجتماعية، فالتمرد الحاد لن يكون بأي شكل من الاشكال نوعا من الحرية، وينتهي الفلم بقناعة عدنان بضرورة الاندماج ضمن المحيط الاجتماعي الذي يمثله الاصدقاء كشكل من اشكال الاستجابة للضوابط الاجتماعية.
إن فيلم اللوحة شأنه في ذلك شأن اغلب الافلام العراقية ومعظم الافلام العربية التي لا تلامس الاشكاليات بعمق، وتطرح ازاءها حلولا جذرية كما، تفعل الافلام العبقرية التي تمتلك القدرة على استجواب الاشكاليات الاجتماعية والسياسية، إلا أن فيلم – اللوحة- يمتلك فضيلة اخراج العمل السينمائي من حيز الاستوديو الى فضاء الحياة، ليكتسب العمل السينمائي قدرته على التحرر من سلطة الطابع الدرامي، الذي يجعل من العمل اقرب الى التلفزيون منه الى السينما، كما امتلك فضيلة التوجيه النقدي الى قدرة المخرج
العراقي على انتاج فلم يمتلك كامل مقومات الفيلم السينمائي في سياق ذلك الطابع الحركي والحيوي المحبب، الذي توفر عليه الفلم المميز ونقصد
(فلم اللوحة ) الذي يمثل تجربة متألقة في الرحلة السينمائية للمبدع الكبير الراحل كارلو هارتيون .