شرفات الظلمة

ثقافة 2024/05/28
...

 أسماء محمد مصطفى

ـ أحقاً، لم تعد الشمس تشرق على شباك غرفتك؟
حين تشيح الستارة الشفافة، وتخرج رأسك من الشباك، فضولاً، ترى جدائلها تتدلى على شبابيك البيوت التي تمتد على مدى نظرك يميناً ويساراً من جهة منزلك طبعاً، وتبدو لك مثل شرف زاهية تتدلى منها الورود، وتداعبها الفراشات، وتزورها العصافير، بينما شباكك غارق في الظلمة، يبدو كعلامة تعريفية لميتٍ في مقبرة مهجورة إلاّ من عواء الريح، وهو ما يرعبك بشدة، ويدفعك لإلقاء نفسك في نوبة بكاء لا تسمع فيها نحيبك وإنما دوي مزعج لمزيج من الأصوات النائحة، الأمر الذي يزيد من يقينك بأنك أصبحت جزءًا من مقبرة، وأنّ تلك الأصوات أرواح تتعذب في مراقدها.
شاء سوء حظك، أو بالأحرى، رداءة تفكيرك، أن تجعل رأسك يشارك دوي الأرواح التائهة، فاندفعتَ يائساً نحو الشباك، لتمد رأسك وتصرخ بالشمس، وأنت تراها تمد أشعتها على الشبابيك الأخرى، بما في ذلك شباك صديق لك. كنت قد اخبرتَه بما تفعله الشمس معك، فضحك، وأشار عليك أن تدعك عينيك جيداً بعد الاستفاقة من النوم، حتى ترى جيداً.
ـ لماذا لا تفعل بنصيحة صديقك، وتدعك عينيك؟ أو اذهب إلى طبيب عيون.
ـ من أنت؟ وكيف دخلتَ إلى بيتي وغرفتي؟
ـ أنا أدخل إلى أي مكان أريد. لا يستطيع أحد منعي.
ـ اذهب عني.
ـ هل تعرف مشكلتك مع الشمس؟
ـ هي التي لديها مشكلة معي.
ـ المشاكل اختصاص البشر، وليس الشمس المعطاء.
ـ انظر من الشباك، واحكم.
ـ نظرت، وأعرف ما يحدث. هل تريد أن أخبرك؟
ـ لا تصدع رأسي أيها الغريب. اخرج.
ـ سأقول لك كلمة قبل أن أخرج.. اقضِ ليلة في بيت صديقك، واستفق صباحاً هناك، حتى ترى إن كانت الشمس تشرق أم لا.
في تلك الليلة تقلبتَ كثيراً على  الفراش في بيت صديقك، بعد أن وضعتَ رأسك على وسادة الأرق، واتشحت بغطاء القلق..  حتى  نمتَ قبل الصباح بقليل، وفاتك تقديم دليل ملموس لصديقك على أن الشمس متآمرة عليك لسبب تجهله.
ـ خذ حبة منومة، وبت مرة ثانية هنا.
ـ أنت، ثانية؟! كيف تظهر فجأة؟ ومن أين تأتي؟ وكيف تفتح الأبواب المقفلة؟ هل أنت لص؟ ماذا تريد مني؟
ـ لص؟ ماذا تملك، كي أسرقه؟ أنا اختصاصي فتح الأبواب المقفلة. أريد أن أعطيك لا أن آخذ منك.
ـ لا أعرفك، ولا تعرفني، حتى تساعدني.
ـ أعرفك جيداً، منذ ولادتك.
ـ هل أنت القابلة التي ولَدَّت أمي، ههههه؟
ـ اسخر كما تشاء أيها الأخرق، كرر المبيت هنا بعد أن تأخذ حبة منومة.
في الصباح اندفعتَ نحو الشرفة، وكنتُ وصديقك قد سبقناك إليها، وقابلناك باِبتسامة. أشرتُ إلى أحد الأصص، وقلتُ لك:
ـ انظر، نبت برعم جديد.
نظرتَ إلى البرعم، صارخاً:
ـ أين هو؟ أتسمي هذه الحشرة التي تتلوى على الأوراق، وتترك فيها ثقوب النهم برعماً؟!
لم استغرب، لكن ابتسامة صديقك اختفت من على  شفتي الاستغراب، متسائلاً:
ـ أي حشرة؟ ماذا دهاك؟ دعنا من الأصيص، وقمْ بما جئت لأجله.. انظر إلى حقل الشروق الكبير الذي أمامنا..
رفعتَ رأسك، فاصطدمت عيناك بجدار مظلم.. وهرعتَ خائفاً إلى الغرفة، ولم تبقّ سوى لحظات، حتى غادرتَ بيت صديقك مسرعاً إلى
بيتك.
ـ أحقاً، لم تعد الشمس تشرق على شباك غرفتك؟ أم أنك تتجنى عليها؟
ـ لماذا أراك هنا وهناك؟ ماذا تريد مني؟
ـ سبق أن قلت لك إني أريد مساعدتك.
ـ لا أحتاج إلى مساعدة أحد.
ـ عليك أن تقصد طبيباً نفسياً.
ـ اذهب إلى الجحيم.. دعني وشأني.
تصرخ بي، وأنا أحاول إشاحة ستار شباك غرفتك، قائلاً لي:
ـ لا جدوى من وجود ستائر.
ـ يا للعجب، أدركتَ أن الشبابيك مضاءة بالشمس؟ وهذا يجعلك تستغني عن الستائر؟!
ابتسمتَ لي بتهكم، مغادراً الغرفة، وعائداً، بعد لحظات، حاملاً قطعة خشب كبيرة ومطرقة ومسامير. ما هي سوى دقائق، حتى تحول الشباك إلى غطاء تابوت، وهرعتَ إلى فراشك، تنام.
أنت نائم، في الظلمة، منذ ولادتك.