عبد الغفار العطوي
مقهى سقراط ومؤسسها كريستوفر فيلبيس الصحفي والجامعي الأمريكي، هي الآن من المقاهي العالمية الفلسفية، أو التي تروج للفلسفة بين العامة من الناس، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر شهرة وانتشارا فحسب، بل تكاد أن تتبوأ الصدارة في العالم، هدفها هو في تقريب الفلسفة نحو الناس العاديين، وأن تكون بمتناول الجميع بأبسط الأشياء التي يجربها العامة من الناس. ولعل ارتباط اسم المقهى بالفيلسوف الاغريقي سقراط لم يأت اعتباطاً، بل مقصود به الفلسفة السقراطية التي اختلفت عن غيرها من الفلسفات، في إنها بنيت على السؤال، والتساؤل البسيط الذي تحتاجه حياة العامة في حل العقد الفكرية المستعصية التي تواجههم كل يوم، ويسألون عنها.
كان لا بد أن نفهم لماذا نتذوق من كل نكهات الفلسفة الغربية منذ الإغريق حتى القرن الحادي والعشرين (نكهة سقراط) من دون الشعور بالمرارة؟ فقد أثبتت الأيام لنا من غير شك، أننا نميل كأفراد عاديين وهواة للفلسفة، إلى فلسفة من هذا القبيل المبسط الفيلسوف الشعبي سقراط (إن صح التعبير) لدرجة لافتة للنظر بسبب القرب بيننا، فلقد جربنا تعلم الفلسفة في المدارس والجامعات على مدى التدريب ألتعليمي والتدريسي بصورة عامة، وعانينا من مشقتها وقسوتها المنهجية، وإن القاعدة الأساسية في فهم وتقبل الفلسفة هو الاستيعاب الفلسفي الذي يعتمد على القراءة الجافة لها، ناسين أو متناسين تعلم الحوار السلس ولو بأبسط أشكاله.
في أول لقائنا التعليمي للفلسفة الإغريقية توقفنا عند سقراط، ولما تعمقنا في التاريخ الطويل للفلسفة، أدركنا السأم لولا عثورنا على مقهى سقراط (من خلال المترجم العربي هادي آل شيخ ناص) منشوراً في كتاب، لأننا وجدنا حرص مؤسس المقهى كريستوفر فيليبس على أن نستفيد، نحن العاديين والهواة، من فلسفة سقراط، بسبب إنها تحفز لدينا أسئلة جديدة، بينما نحن نأتي للمقهى بأسئلة نود أن نجد لها أجوبة، (وهو ما يفسر لنا سرعة انتشار فكرة مقهى سقراط في أنحاء العالم وتحقيق بعض المنافع في ذلك).
وفيليبس على مدى خمسة فصول التي حواها الكتاب، ظل يؤكد على إن الفلسفة يجب أن تعود للناس مثلما كانت في زمن سقراط، لهذا تراه وضع السؤال السقراطي في كل الكتاب، أي إنه يريد إعادة الفلسفة إلى العامة من الناس.
من هنا سأتبع خطته في تقريب وجهة نظري كهاو للفلسفة، وأرسم شخصية سقراط في المراجع الفلسفية التي أعطت لطريقته اهتماماً ملحوظاً بغية فهمنا كيف نتذوق الفلسفة في حوارنا مع الآخرين؟ في (آلام العقل الغربي فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم ريتشارد تارناس) المرجع المهم الذي يعد من بين المراجع التي طرحته سيدة في مقهى سقراط، ويتعلق بالجذور الأولية في الفلسفة الغربية التي تطرقت إلى نظرة الإغريق إلى العالم، ومن بينها نظرة سقراط يقول تارناس، بدأ سقراط بحثه الفلسفي مثل أي سفسطائي مسكون بالشك وفردية النزعة، بعد أن استنزل الفلسفة من السماء وأشاعها بين الناس في الأسواق.
وشاعت في أول مرة في تاريخ الفلسفة، الدهشة الفلسفية التي تعتبر من ابتكارات الفلسفة الاغريقية (الدهشة الفلسفية جان هرش).
لقد كانت بداية الانفتاح على العالم، كان سقراط ينتمي إلى أصول متواضعة، ولطالما رسم له بورتريه متباين مع بورتريه تلميذه افلاطون، وهو فتى ارستقراطي، عكس سقراط الذي لم يكن يكتب أي شيء، بيد أنه سرق الدهشة من الفتيان والشباب الارستقراطيين قبل الدهماء، ولا نجد أي مؤرخ للفلسفة اليونانية إلا واطرى على أسلوبه في إثارة التساؤلات، وعرض ألان دوبونون في (عزاءات الفلسفة كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة) صورة مأساوية جليلة لسقراط في عزائه الأخير حينما سيق للإعدام في حكومة الثلاثين الديمقراطية بتهمة تشجيع العامة في الثورة على الآلهة، ولعل شخصية سقراط التي استطاع إفلاطون في محاوراته أن يضخم من كارزما أستاذه فيما يتعلق بشجاعته في مواجهة الموت، رافضا الهروب الذي أتيح له هي التي ابقته خالداً وهو يلقي السؤال الخالد: اعرف نفسك.
فقد كان سقراط يرفض مخالفة الآراء السائدة، رغم ما نقل عنه ما يوحي بعكس ذلك، فسقراط المحكوم بالموت على يد حكام أثينا، يتهيأ لشرب سم الشوكران، محاطاً بأصدقاء مكتئبين في ربيع عام399 ق م، تصرف ببسالة أسطورية، وبرغم إتاحة فرصة له للتبرؤ من فلسته في المحكمة، أختار الوقوف مع ما كان يؤمن إنه صحيح، لا مع ما كان يعلم إنه سيكون سائداً.
وبحسب توصيف افلاطون كان قد خاطب المحكمة بجرأة، لهذا حازت طريقته في الدفاع عن فلسفته أن يخلد في تاريخ الفلسفة، فنادراً ما أغفله المؤرخون للفلسفة، بدءًا من افلاطون في محاوراته (محاورات افلاطون اوطيفرون الدفاع اقريطون فيدون جمع بنيامين جويت) ومروراً ب (حكمة الغرب برتراند رسل ج1)، حيث اكد رسل على فلسفة سقراط، واعتبرها نقطة تحول في تاريخ الفلسفة الغربية، وكذلك جاء برتراند رسل في (تاريخ الفلسفة الغربية – الكتاب الأول) على ىسقراط بنظرة أكثر محورية عما ذكره في الكتاب السابق (حكمة الغرب) وإن بدا الأمر إن (حكمة الغرب) عد من مؤلفات رسل في تاريخ الفلسفة المميزة، لكن لا يمكننا إغفال إن رسل لفت أنظارنا للدور المهم الذي قامت به فلسفة سقراط، في إنها فتحت العالم الغربي القديم، ولحد الآن على خطورة سقراط في دوره الريادي في طرح التساؤل الفلسفي على بساط الفلسفة الغربية، حينما انتقلت الفلسفة بعده من قضية شبه علمية تخص شواغل الآلهة، وتفسير الظواهر المتعلقة في الوجود (الانطولوجيا) لتتمركز في العقل البشري، أي هبطت الفلسفة للإنسان، تاركة الآلهة يتصرفون وحدهم في جبل
الأولمب.
لقد أساء أغلب الاثينيين الذين عرفوا سقراط بحقه، لكن افلاطون يريد ان يصور سقراط كما وقع فعلاً في التاريخ، وإلى حد يريد بالشخص الذي يسميه سقراط في محاوراته في أن يكون لسانا معبرا عن آرائه هو فحسب، لهذا اضحى سقراط مضرباً حتى في التشكك الذي ينزع بعض مؤرخي الفلسفة الغربية على مرور الزمان أن يشهروه في وجه من لا يقبل بأن الفلسفة الغربية تفتقد المصداقية كمصداقية سقراط، وبراءة بيضاء كبراءة سقراط.
من هنا أعتقد إن كرستوفر فيلبس كان محقاً في مشروعية تأسيس (مقهى سقراط)، خاصة أن القرن الذي نعيش فيه الآن (21) يغوص في متاهة التعقيد المنهجي للفلسفة (أي فلسفة للقرن الحادي والعشرين مجموعة من المؤلفين)، ولربما نكون أكثر تشاؤماً في إعلان (موت الفلسفة تشارلي هوينمان، اليكس سوجنج، كيم بانج) لكن اظن إن السؤال السقراطي يستعيد دوره من جديد بين العامة باعتباره حواراً سهلاً مثمراً.. مازال سقراط يردده في المقهى في نيوجيرسي.