النوم في مرحاض دوشامب

ثقافة 2024/05/29
...

محمد طهمازي



يسرح الفن المفاهيمي بأفكارك برغم كونه جديا لدرجة الإزعاج، وليست له علاقة بالسوريالية أو الرومانتيكية، لكنه يأخذك لمناطق زمانية ومكانية بمركب خبيث ينتقع فيه الماضي والحاضر ولا ينفك يمدك بأسماك الغضب ويفجر في رأسك بالونات الخيبة.
ولعلنا كمجتمعات قادمة من عالمها الثالث الذي ليس بثلاثي الأبعاد، بل لا يزال في سطحيته، لا نقوى على استيعاب أي صورة فنية تقوم على المعنى أو الفهم، وبالتالي فليس من قدرات وعينا مجتمعا ونخبة، تناول الفن المفاهيمي، بل وأي أمر فيه فعل الفهم، لأن ثقافة مجتمعنا ونخبتنا تأسست على التبعية لا على الفهم، ومن المؤكد أن مذنبا ثانيا ضرب جينات هذا المجتمع ليخرجه من أهل ( كيف ولم ) الذي سعى إيليا العظيم ليكون أساس دولته، ويدخله في كهف ( نفذ ثم ناقش ) إن بقي ما يدعو للنقاش أو بقي هناك من يناقش. ومن سخرية القدر أن تتحد جهود المؤسسات الدنيوية وتلك الما ورائية قديمها وحديثها على إدامة هذه الثقافة وترسيخها، بدافع الضرورة والمصلحة العامة.

إن الفن المفاهيمي في قرارة ذاته هو مفهوم أو خطاب أكثر منه عملية تشكيلية، باعتبار أن العمل الفني يتحكم به جانبان؛ الأول هو الرؤية الفنية أو الفكرة أو المفهوم، والجانب الآخر هو العملية التشكيلية التقنية، ومن الطبيعي أن تتباين النسبتان اللتان تشغلان الجانبين في معمارية العمل الفني. وهنا في الفن المفاهيمي تكون النسبة الغالبة هي للمفهوم أو الخطاب المصوب نحو جانب استفزازي انتقادي أو حتى تنويري، يوجه صفعة قوية للوعي المتبلد المستسلم للقيم المخدرة. لقد قام الدادائي مارسيل دوشامب بقلب المرحاض ثم وضع عليه توقيعه ليقول للمتلقين إنكم مستهلكو فضلات الحضارة، وإن القيم الرأسمالية والاستهلاكية هزمتكم وتهزمكم ثم تتبول عليكم كنوع من الإذلال والإهانة، بعدما أقامت مجازر بشرية في حروبها المعلنة التي باركتها ثقافتها المادية العقلانية الخالية من مصطلح يدعى “الضمير”، مستهينة بحياة الناس وأحلامهم، وهي اليوم تستهين بكل أنواع الحياة على هذا الكوكب وتلوثها وتقضي عليها في اندفاع جشعها المتوحش.

لا يمكننا إلا أن نعتبر الفن المفاهيمي، وهو في نظري امتداد للدادائية، واحدًا من أكثر التيارات تحدياً وإثارة في عالم الفن، إذ يقدم نهجًا يختلف جذريًا عن كل المدارس الفنية التي سبقته أو تلته. هذا الفن لا يعتمد على الجماليات البصرية بقدر اعتماده على الأفكار والمفاهيم، الأمر الذي يجعله في بعض الأحيان مثيرا لردات الفعل المستنكرة أو المعادية، وحتى تلك التي تسقطه من خانة التعبير الفني والإبداعي.

يتخذ الفن المفاهيمي من الأفكار وسيلة للترحال في جدلية الصراعات التي تعيشها الإنسانية، وهي تحاول التوليف بين نقلات حياتها اليومية والسلطة والزمن، مقدما تجارب فريدة للمتلقين تحفز فيهم غريزة التفكير بعمق والتأمل في القضايا الاجتماعية والفلسفية والسياسية والاقتصادية، ويطرح تساؤلات حول الواقع والحقيقة وعلائقهما الزمكانية. وأراه يعمل على ضرب العاطفة بالذهن ليقدح شررا يشعل أكبر قدر ممكن من نار التأثير التي يتوقد منها الوعي.

إن فهم أعمال الفن المفاهيمي، يتطلب من المتلقين استعدادًا نفسيا وعقليا وثقافيا لإمعان التفكير والتحليل. إنه يتحدى النظريات التقليدية للفن، ويعرض منظورًا جديدًا يعتمد على التفكير النقدي والتأمل العميق في الرسائل التي يحملها.

يتمتع الفن المفاهيمي بقوة فريدة في تحريك الأفكار والمشاعر، الأمر الذي يؤكد مكانته المميزة بين أنواع الفنون الأخرى. إنه لا يدعو إلى المشاهدة المستمتعة بالعمل الفني، بل يدعو إلى شحذ الرؤى والتفاعل البناء مع المفهوم والطرح الذي يحمله العمل الفني، مقدمًا دعوة صريحة لإعادة النظر في وعينا للأشياء التي نأخذها كمسلمات، ولقتل الروتين المقصود الذي حقنتنا به القوى والطبائع التي تتحكم بحياتنا ووجودنا.

يقول أليخاندرو يودوروفسكي: “يمنحك الفن مفهومًا جديدًا للواقع، ويفتح عقلك، ويفتح قلبك، ويفتح رغبتك في العمل.”