عباس الكاظم.. خطواتٌ يقظة بتجانسٍ حركي ونفسيّ

ثقافة 2024/05/30
...

 جمال العتابي 


مؤخرا.. افتتح في العاصمة الدانماركية "كوبنهاگن" المعرض الشخصي للفنان عباس الكاظم "خطوات يقظة" بحضور واسع ومميز من الوسط الفني والثقافي والأكاديمي في صالة البهو الملكي التاريخي لمدينة "روسكلدة". 

 توزعت الأعمال الفنية المختلفة القياسات على أربع صالات، شغلت الأولى مشروع "حينما تبدأ الأشياء"، تضمنت 62 لوحة فنية، أما الثانية فضمت عملين هما "سقوط الحضارة" و "بزوغ الحضارة" بقياس ثلاثة ونصف لكل لوحة، وبين هذين العملين الكبيرين لوحتان أخريان هما: "أعيش مع الضوء" و " مرآة الوقت". وكانت الصالة الثالثة مخصصة للعمل الأهم "المفكر الحر يرى" المثبتة على جدار تقابله شاشة كبيرة يتحدث عبرها المفكر العراقي الشهيد كامل شياع بتسجيل "فديوي" بالصورة والصوت لمدة 35 دقيقة. 

أما الصالة الرابعة والأخيرة، فضمّت "على ضفاف بحيرة دام هوس سون"، يتشكل من 9 أعمال نفذت بالألوان المائية على ورق قطني "صناعة يدوية"، بأحجام كبيرة ومتوسطة. 

 لقد أثار تصميم القاعات الفنية وطريقة العرض إعجاب المستشارة الفنية لوزارة الثقافة الدانماركية أثناء افتتاحها المعرض، بالقول: كان تصميم المعرض رائعاً يكشف عن ذكاء الفنان الكاظم وخبرته في هذا المجال. وكانت الصحافة الدانماركية قد تابعت الفعالية باهتمام بالغ، ونشرت على صفحاتها تقارير مصورة عن 

المعرض والفنان أثناء الافتتاح وقبله. 

إن المتابع لتجربة عباس الكاظم يستطيع التوقف عند توقه المطلق للحرية في التعبير عن مشاعره، فتتولد لديه حينذاك أعمال إنسانية متكاملة ذات نبرة خاصة يتفرد بها، وإذا كان الفنان بطبيعته يميل إلى الحياة الباعثة على الاستمرار، كان من الطبيعي بالنسبة له أن يجد نفسه في حيرة وتساؤل وصراع مع العالم من حوله في كل منجزاته، بشكل يدعو إلى التأمل والتفكير، لذلك يحاول ان يقدم الكاظم أعمالاً تنسجم وهذا الواقع، ربما تسبب إرباكاً لاستجابة المتلقي، فيصبح من الصعب أن تكون المنازل حيث يعيش الناس حاضنة مناسبة تستوعب الأعمال الفنية على وفق هذه المفاهيم يقدم الكاظم أعماله.

توافقت هذه النزعة الفنية لديه مع الرغبات الكامنة نحو الاستكشاف والمعرفة وارتياد المجهول، لذلك لجأ إلى ما يعرف بفن التجهيز أو التركيب، قدّمه في  هذا المعرض عبر جدارية كبيرة أسماها "المفكر الحر يرى"، لعل المسألة الجوهرية التي تثيرها الجدارية تستحق منا الوقوف بشكل يتيح لنا قراءة مجموعة الصور لمائة شخصية فكرية وثقافية وفنية، شاركت بحركة واحدة لعدسة النظر"اليد تمسك ذراع العوينات"، الوجوه وهي محدقة في عيون المتلقي.

لأجل هذا السبب وحده لابد من البحث بوعي عن معنى هذا التكوين بكل ما يحمل من توهج ودلالة ودينامية، فالحركة تعبر عن نشاط ذهني معلن أو خفي لتغدو تحدياً لنا، أنه شرط الضرورة في وجود المثقف الحر، هؤلاء فتحوا باب التبصر أمام المشاهد في نداء متصل يجمع خيوط التعبير، وبصوت عالٍ موحد: المفكر الحر يرى.

 الفنان هنا يطرح خطاباً معرفياً مؤثراً ومحركاً، فالتشكيلي ليس كائناً ملوّناً فحسب، إنما هو مثقف مشارك بوعي يستحث الذهن يدعو للبحث عن معنى، انه يقدم خطاباً مفاهيمياً خارج التقليد، يتعلق بصيرورة الأفكار وديمومة الحياة. سعادتي أني كنت أحد المشاركين في الجدارية. 

أثار المعرض اهتماماً واسعاً، وأصداءً إيجابية لدى الوسط التشكيلي وعدد من النقاد، كما رحب به عدد آخر من الأدباء والمثقفين العراقيين والعرب، وكتبوا بإعجاب لهذه التجربة، فذكر الشاعر والفنان صادق الصائغ: ما اسمها تجربتك في عصر تنقصه التسميات؟

استبصار؟ أفلاك بشكل آخر؟ أن تعرف.. أن تبصر؟ من بصيرة إلى بصيرة. 

وكتب الروائي عبد الله صخي رؤيته للمعرض: أحسب أن اليد الماهرة المدرّبة على إعادة البناء الفني قد سمحت للخيال الخصيب أن يطلق الصور من أسرها، من قيودها الوهمية التي تحتويها الفردانية، ذلك ان لكل وجه في الصور له ملمحه الخاص، وسؤاله الخاص، هؤلاء يوشكون على إطلاق أصواتهم بنشيد الحرية. 

الشاعر جميل القصاص كتب عن الذبذبات البصرية الموحية لحركة النظارة فوق العين، العمل يعكس مغزى عميقاً، ويصنع نوعاً من التجانس النفسي والحركي لوجوه مسكونة بالدهشة والتأمل. ويضيف الدكتور المصري نبيل عبد الفتاح بالقول: ليست الصور صامتة، انما تحاول البوح التعبيري، انها صور ناطقة بالصدق والدهشة.

ويرى الشاعر هاشم شفيق أن عباس الكاظم أنجز جدارية مميزة ونادرة في عالم التصوير والرسم، كما يعتقد الدكتور سلمان الگاصد أن الجدارية تشير إلى مقاصد مختلفة أهمها رؤية العالم من وراء قناع شفاف، وكأننا نسأل: من المبصر؟ إنها رؤية يشترك فيها عدد من المبدعين، وهي التي توحدهم فعلاً في اكتشاف العالم. 

الناقد الموسيقي والكاتب ثائر صالح انضم لقائمة المعجبين بالمعرض، عبر اشادته بتجربة الفنان الكاظم التشكيلية ومنجزه الجمالي. 

يذكر أن الفنان الكاظم نال جائزة البينالي الأولى المقام في القاهرة عام 1998، عن عمله الفني "هيكل سرير - بقايا وطن". فضلا عن مشاركاته العديدة في المعارض والفعاليات الفنية التي اقيمت في بلدان أوروبية  وعربية.