التبئير.. زاوية السرد

ثقافة 2024/06/03
...

  أحمد الشطري


تعد وجهة النظر أو التبئير واحدة من أهم تقنيات السرد، إذ يحدد من خلالها الروائي الأسلوب الخطابي لروايته عبر الموقع الذي يختاره للراوي في تلك الرواية، فبتنوع هذا الموقع تتنوع آلية السرد ومستويات بناء الشخصيات، والفضاءات التي يستطيع الراوي الولوج لها.

والمقصود بالتبئير: هو رؤية الراوي إلى العالم الذي يرويه بشخوصه وأحداثه والكيفية التي يوصل بها حكايته أو خطابه إلى المتلقي.

في كتابه المهم (خطاب الحكاية) وبعد أن يستعرض لنا جيرار جنيت آراء مختلفة لعدد من النقاد تتعلق بأنماط الرواة وتموضع الراوي في عوالم مرويته، يتبنى مصطلح التبئير في وصفه لأنماط الرواة، والتبئير أو بؤرة السرد هو مصطلح اقترحه الناقدان كلينيث بروكس وروبيرت وارين عام 1943م، كما يذكر ذلك جنيت، الذي يقدم لنا تعريفا لتقنية التبئير ودورها في تقديم الخطاب الروائي، من خلال تقسيم الحكايات وفقا لنط تبئيرها إلى ثلاثة أنواع أو مستويات وهي: 

1 - الحكايات غير المبأرة أو ذات التبئير الصفر: وتسمى الرؤية من الخلف ويستخدم فيها الضمير (هو) وفيها يكون الراوي عليما أو يعرف أكثر من الشخصية. 

وتقع كثير من الروايات في دائرة هذا النمط وخاصة الروايات الكلاسيكية كما يشير إلى ذلك جنيت. 

ويمكن أن نمثل لها برواية (الجريمة والعقاب) لدوستويـفسكي ورواية (آنّا كارنينا) لتولستوي ورواية (الحمامة) لباتريك زوسكيند ورواية (حفلة التيس) لماريو بارغاس يوسا من الأدب الغربي، وعلى صعيد الرواية العربية فإن كثير من الروايات الكلاسيكية والمعاصرة تقع في داثرة هذا النمط أيضا ويمكن أن نمثل لها ببعض روايات نجيب محفوظ كرواية ألف ليلة وليلة وثرثرة فوق النيل، وبعض روايات إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله ورواية بين الأطلال ليوسف السباعي، وفي الرواية العراقية أمثلة كثيرة على ذلك أيضا، كما في رواية (حدائق الرئيس) لمحسن الرملي و(فرنكشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي على سبيل المثال، وقد تساهم هذه التقنية في توفير أكبر قدر من المعلومات عن شخصيات الرواية مما يمكن المتلقي من رسم صورة متكاملة عن تفاعلاتها وانفعالاتها النفسية والاجتماعية وما يحيط بها من ظروف بشكل يقترب من الموثوقية باعتبار أن الراوي سيكون 

محايدا.

2 - الحكايات ذات التبئير الداخلي أو (الرؤية مع أو الراوي المشارك) ويقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ‌- التبئير الثابت: وتعني أن الأحداث يتم سردها عبر شخصية واحدة تكون مشاركة في الأحداث ويستخدم فيها ضمير الأنا. وهو ما نجده عادة في روايات السيرة الذاتية أو ما يشابهها، ومن ذلك رواية (ألكسيس زوربا) لنيكوس كازانتازاكيس في الأدب الأجنبي ورواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح عربيا ورواية (الجريمة، الفن، وقاموس بغداد) لعلي بدر

ب‌-  التبئير المتغير: وفي هذا يقوم عدة رواة بسرد أحداث الرواية بصورة متناوبة رواية ميرمار لنجيب محفوظ ، وغريزة الطير لعبد الزهرة زكي مثالا.

ت‌- التبئير المتعدد: وهو أن يقوم عدة رواة بسرد حدث واحد من وجهات نظر مختلفة ومثال ذلك ما أشرنا له في مقال سابق في رواية (اصوات من هناك) لنعيم آل مسافر، حيث يروى الحدث من وجهات نظر مختلفة بشرية تارة ومكانية مؤنسة تارة أخرى.

وعلى الرغم مما يمكن أن توفره هذه التقنية من تنوع في إيقاع السرد وفتح مساحات واسعة أمام الانثيالات النفسية عبر تقنية المونولوج والتي تساهم في بدورها في الدخول إلى العوالم الداخلية للشخصية الرئيسية، إلا أنها في بعض الأحيان تخلق نوعا من عدم الموثوقية بما ينقله الراوي باعتباره شخصية غير محايدة، إذ من غير الممكن أن يقدم لنا صورة صادقة عن ذاته أو محيطة بشكل كلي بما حوله.

3 - الحكايات ذات التبئير الخارجي أو الرؤية من الخلف: والسارد هنا غير مشارك في الأحداث، وهو لا يعلم ما تخفيه الشخصية، بمعنى أن مثل هذه الروايات تنطوي على لغز يبقى مجهولا إلى آخر الرواية، وغالبا ما يستخدم هذا النمط  في الروايات البوليسية أو المخابراتية، كروايات أجاثا كريستي وروكامبول وجيمس بوند وغيرها، وغالبا ما تتسم روايات هذه التقنية بإيقاعها المتوتر والذي يسهم في خلق أكبر قدر من الجذب والتفاعل العاطفي.  

إن لكل نمط من هذه الأنماط مميزاته التي يجب على الراوي أن يعرف كيفية التصرف بها ومعها؛ لكي يتم الاستفادة من التقنية المستخدمة بشكل يتناسب مع مميزاتها، بما يمكن أن يساهم في تحقيق أكبر قدر ممكن من الجذب بنوعيه العاطفي والذهني، وخلق حالة من التكامل الجمالي والتقني.

 ومن المهم أن نشير إلى إن عملية التبئير في الروايات قد لا تسير بشكل دائم بذات النمط، إذ قد تتغير زاوية الرؤية بشكل عرضي ليكون التبئير خارجيا ومن ثم يعود داخليا أو العكس، فنجد أن الراوي قد تحول إلى متلق ينقل ما ترويه الشخصية عن نفسها مثلا أو عن حدث مر بها، ومن ثم فإن تلك الشخصية ستتلبس دور الراوي الذي أما أن يكون عليما أي أن يكون الحدث غير مبأر، أو أن يكون التبئير خارجيا أي برؤية من الخلف، أو أن يكون التبئير داخليا عبر راو مشارك، والأمثلة على استخدام أنماط متعددة لتقنية السرد  أكثر من أن تعد، سواء في الروايات الأجنبية أم العربية أم العراقية، بينما يكون  هذا التنوع أو التنقل في زوايا النظر في القصص غالبا وخاصة القصص القصيرة بنسبة أقل أو ربما يكون معدوما.