د. كريم شغيدل
إن مفردات العنف تتسلل للنص الشعري سواء كان بقصد معالجة الوقائع اليومية أم بقصد محاكاة مشاعر الألم التي تخلفها، أو بقصد التعبير عن الهم الذاتي، يقول الشاعر باقر صاحب في مقطع من قصيدته (لحظة وشارع): "لحظات مفخخة/ أقل ما يقال عن يوميّاتِنا/ لا مبالاة قطيع/ أكثرُ ما يقال عن لهاثِنا/ بعد تشظي أشلائنا/ حبّ الحياة/ أفضل ما يقال عن تشبّثنا الأعمى بالأمل".
ففي هذا المقطع ينقل النص ثيمة العنف من المكان إلى الزمان "لحظات مفخخة" إذ يتحول العنف إلى سمة دائمة وليست عابرة، وهو أقل ما يقال، بينما يتحول فعل اللهاث عقب تشظي الأشلاء إلى لا مبالاة، وعدم اكتراث بمدلول حيواني قطيعي، كناية عن غياب الوعي وانعدام الشعور بالمسؤولية بما يجري، لكن يبقى حب الحياة، كما يرى النص، تشبثاً أعمى بالأمل، وهذا يعني انعدام الأمل، أو تحوله لمجرد تشبث غريزي لا يميز ولا يهتدي لطريق "أعمى"، وإذ يحاكي النص صورة قاسية للعنف، يحاول أن يضع لها معادلاً فكرياً أو تفسيرياً بصيغ تفضيل بين زمن مفخخ وعدم اكتراث أحد بما يجري من جهة وبين الحياة من جهة ثانية، ويختار الشاعر نفسه عنواناً مباشراً لإحدى قصائده "مرثية لحبيبي في حروب الطوائف" يقول في أحد مقاطعها: "يَا مَنْ سُجّيتَ إلَيَّ/ يَا مَنْ خَلَعَتْكَ أَرْضُ مَدِينَتِنَا/ رَمَيْتَ رَبِيْعَاً يَحْبُو/ وَذَهَبْتَ لِتُسَمّمَ بُسْتَانَاً/ يُغَنِّي عَلَى ضِفَافِ مَدِيْنَةْ".
وهذا المقطع ذو بنية فعلية فمن مجموع خمسة أسطر هناك سبعة أفعال مسندة لفواعل مختلفة، وهذه دلالة ظاهرة على حركية النص، إذ يبدأ من الإسناد إلى الماضي المبني للمجهول "سجيت" ثم ينتقل إلى الماضي المبني للمعلوم "خلعتك أرض.." ثم الماضي المسند للمخاطب "رميت"، يعقبه مضارع مسند إلى مستتر إعرابياً "يحبو"، لكنه دلالياً مسند إلى معلوم "الربيع" الذي جاء مفعولاً به يعود عليه الفعل اللاحق "يحبو"، ثم ماضٍ مسند إلى المخاطب "ذهبت" يعقبه مضارع مسند إليه أيضاً بلام التعليل السببية "لتسمم" ثم مضارع مسند لمستتر "يغني" عائد على معلوم "بستان"، وهذه التبادلية بالأفعال قد رسمت صورة بنائية لتبادل العنف الطائفي المنوه عنه بموجِه قرائي من خلال العنوان.
إنَّ هيمنة مفردات العنف ودلالاته وأجوائه على قصائد الشعراء العراقيين المعاصرين، تعد نتيجة طبيعية لما خلفته وتخلفه الحروب المتوالية، ولا يمكن الإحاطة بهذه الظاهرة من خلال بحث أو كتاب، فبالنسبة لسعتها وتعدد مستويات الأداء الشعري وأساليب المعالجة وأبعادها الثقافية فإنَّ مجلدات عديدة لا تفيها حقها، ففي كل قصيدة، مهما كانت رومانسيتها أو وجدانيتها أو عاطفيتها ثمة صدىً لأزيز الرصاص وهدير المدافع، وثمة رثاء للأرض والإنسان والوجود والتاريخ، وأيضاً نجد صدىً للرفض ونبذ العنف وإدانة الحرب، وصدىً آخر للأمل والسلام، وقلما نجد شعراً عراقياً معاصراً خالياً من ظلال الحروب، بل هناك نصوص قاسية تعكس مدى الإحباط واليأس والخوف من المجهول في حياة يأسرها العنف بمختلف صنوفه، يقول الشاعر قاسم سعودي في قصيدته (حدُّ السكين): "البشريُّ الذي يقفُ في طابورِ الخُبْز/ مثلَ نمرٍ جريح
هو ذاتهُ من أطعمَ حنجرةَ المدرعةِ بالقذائف ليلةَ أمس/ البشريُّ الذي لا يعرفُ أن يقولَ صباحُ الخير/ هو بعينهِ من تطاولَ على الآلهةِ الميتةِ في التظاهرةِ اليتيمة". نلاحظ أنَّ أجواء القسوة تهيمن على لغة النص ودلالاته وصوره، فالبشري هنا قد لا يكون إنسانياً، فهو وحش كاسر، محبط، هائج، "نمر جريح" وهو الجائع نفسه الذي يطعم آلة الحرب ويغذي استمرارية فعلها، وهو من جانب آخر شخصية فظة بدائية قاسية منغلقة، تجهل التواصل مع الآخر، وهي أنموذج للمشاغب الذي أنتجته الحروب فهو: "البشريُّ الذي يشدُّ الحبلَ على عنقِ البلاد"، ويقول الشاعر صفاء خلف في قصيدته "القرمطي بنسخته الرقمية": "ما أشهاك أيتها الطلقة الغادرة حين تقتصين من كل آثام الكون/ بجسدي الصغير، أقترح عليك، هجوماً مباغتاً على سلم رفيعظ يحتويني، هشميه، ابتني منه كوخاً للشعر، صيريني دواة رائقة لكتابة الجنون والحلم". وهكذا يكون الشعر معبراً عن الواقع، وليس نسخة منه، ومعنياً بهموم الإنسان، وليس موجهاً أيديولوجياً يشكل رأيه، أو خطاباً دعائياً لتعبئة الجموع باتجاه هدف سلطوي، وليس مجرد تهويمات خيالية، أو هم ذاتي أو معرفي، وإذا كان الشعراء يتخذون من الوقائع اليومية مضامين لقصائدهم، فهذا لا يعني بأنهم يقصدون كتابة تاريخ الحوادث العابرة، وإنما يبغون من وراء ذلك موقفاً أخلاقياً بالدرجة الأساس، لمعالجة هموم الإنسان، وإدانة كل ما هو ضد الإنسانية وكل ما يتسبب بخراب الحياة وفضاءاتها الجمالية والمعرفية والحضارية، وهذا النوع من الشعر، على الغالب ليس مؤدلجاً على طريقة الواقعية الاشتراكية، وإنما هو بمثابة الشهادة التي يؤمن الشاعر بأنها لا بدَّ أن تقال، وهذا جزء مهم من رسالته الجمالية والمعرفية والأخلاقية، فضلاً عن كونه خطاباً له جمالياته برغم معالجته لموضوعات قد تكون مباشرة، وله ابتكاراته اللغوية والتركيبية والدلالية، فالشعراء لم يضحوا بالمستويات الفنية لاشتغالاتهم لتجسيد الوقائع أو إيصال الرسالة الأخلاقية، ولم يغرقوا نصوصهم بنثرية الأسباب والعلل، أو بالتصورات الفكرية والفلسفية، على أنها لا تخلو مما هو معرفي عام أو تأملي أو غنائي ذاتي يمازج بين هموم الواقع والذات.