قرّاء: أغلب مشكلاتنا الزوجيَّة بسبب اقتناء الكتب

ثقافة 2024/06/05
...






صفاء ذياب




 غالباً ما تشكّل بدايات القراءة معضلة لدى الكثير من الأسر العراقية، تلك البدايات التي كانت سبباً في ابتعاد الكثير عن اقتناء الكتب، بسبب رفض الأهل دفع مبالغ لشراء أبنائها كتاباً ما، ومن ثمَّ كان الكثير من القرّاء يشترون كتبهم بالسر، حتّى يتشكّل وعيهم، ومن ثمَّ تكون العائلة أمام الأمر الواقع.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تستمر المشكلة حتَّى بعد زواج هؤلاء القرّاء، الذين أصبح بعضهم فيما بعد كتّاباً بتخصّصات مختلفة، فتبدأ معاناة جديدة حين لا تكون هناك أيّ علاقة بين زوجة القارئ والكتاب، وربّما تكون المعضلة مضاعفة إذا لم يكن بيت الزوجية ملكاً، بل يسكنون في الإيجار، ما يضطرّهم للانتقال أكثر من مرّة كلّ سنة.




بعض القرّاء- وبسبب الكتب- وصل بهم الأمر للانفصال عن زوجاتهم، وآخرون عاشوا في مشكلات كثيرة، لأنَّ تلك الزوجات يرفضنَ دخول أيِّ كتاب للبيت، ما يعتبرنه نفايات أو فوضى تسعى للتخلّص منها. لهذا كانت أغلب مشكلات المثقفين والكتّاب تكمن في علاقة زوجاتهم بالمكتبة الشخصية ورفضهنَّ شراء ما يحتاج إليه من الكتب التي يجلبها للبيت… كيف ولماذا؟

 اختلافات اجتماعية

يؤكّد الناقد الدكتور علي حسين يوسف أنَّ هذه المشكلة قد تكون شائعة فعلاً. العلاقة بين الكتّاب وزوجاتهم تعتمد على العوامل الثقافية والشخصية لكلٍّ منهما. ويمكن أن يكون الاهتمام بالكتب والمكتبة الشخصية مختلفاً من شخص لآخر. قد يكون الزوج مهتمّاً بالقراءة وجمع الكتب، في حين أنَّ الزوجة قد لا تشارك الاهتمام نفسه. إذا لم يتم التواصل بينهما بشكل جيّد بشأن هذا الموضوع قد ينشأ توتر.

لذلك يجب أن يكون هناك حوار مفتوح حول الاحتياجات والتفضيلات الشخصية لكلٍّ منهما. وقد يكون هناك توتر بسبب الاختلافات الاجتماعية والثقافية. وقد يكون الزوجان من ثقافات مختلفة، وهذا يؤدّي إلى اختلاف في القيم والعادات والتقاليد. وهذه الاختلافات يمكن أن تؤدّي إلى توتّر في العلاقة الزوجية، لاسيّما إذا لم يتم التفاهم على كيفية التعامل مع الكتب والمكتبة الشخصية.

ويعتمد شيوع هذه المشكلة على ظروف الزوجين الشخصية أيضاً. لكنَّ التفاهم واحترام الهوايات والاهتمامات الشخصية أمر مهم هنا.

 أخلاقيات العلاقة

ويرى الكاتب كاظم الواسطي أنَّه حين يكون هناك تباين وردود فعل مختلفة في طبيعة العلاقة مع الكتاب بين الزوجين، كأن يتعلّق الزوج بقراءة واقتناء الكتب، وتُظهر الزوجة عدم اكتراث ولا مبالاة، بل حتى أن تكشف- بالسلوك والكلام- عن نوعٍ من الامتعاض والتذمّر تجاه اهتمام زوجها وحرصه على الاستمرار بشراء الكتب والمواظبة على قراءتها في الأوقات التي يختارها على وفق مزاجه، وما يتاح له من أوقات فراغ قد تتعارض مع تلبية بعض الاحتياجات العائلية. مثل هذا التباين، وعدم التوافق في المزاج والموقف من وجود الكتب في البيت، يخلق اختلالاً في العلاقة بينهما، وفجوة تتسع في مسار حياتهما المشتركة، ولاسيّما حين يكون للزوج شغف قديم بالقراءة والكتابة، ظلَّ عالقاً في ذهنه، وصار من مكوّنات أحلام الطفولة والشباب التي تبقى حيّة في الذاكرة.

ويضيف عن علاقته بهذا الموضوع: أتذكر جيّداً كيف تداولت مع زوجتي في أثناء فترة الخطوبة عمّا أكّدت كونه من الأساسيات في حياتي، وهما اقتناء الكتب والقراءة، وأيضاً الاستمرار في علاقتي مع الأصدقاء الذين أشترك معهم بذات الاهتمامات والأفكار، وبقينا نتذكّر ذلك، كما لو أنَّه جزء من أخلاقية علاقتنا، والحفاظ على ديمومتها.

وظلّت زوجتي إيجابية جدَّاً في التعاطي والعطاء معي ومع الكتب التي تراكمت في المكتبة وعلى أرضية الغرفة، باستثناء ما كان يزعجنا من العبء الذي تسبّبه تلك الكتب في أثناء تنقّلاتنا المتكرّرة من بيت إلى آخر، إذ إنَّ نقلها من الرفوف وتوضيبها، يتطلّب جهداً ويستغرق وقتاً أكثر من ممتلكات وأثاث البيت الأخرى.

ومنذ ستّين عاماً، حيث بدأ شغفي في القراءة منذ الصف الخامس ابتدائي بقراءة مجلّدات سوبرمان وبساط الريح وبعض روايات أرسين لوبين، وأنا مستمر على القراءة واقتناء الجديد من الكتب، وأشعر بأنَّ اليوم الذي لا أقرأ فيه يوم ضائع من عمري، ولهذا أواصل القراءة، وإن بتقليب صفحات قليلة من كتاب، تحقّق لي متعة كبيرة.

ميزانية مخرومة

ولم تكن زوجة الروائي علاء شاكر تحب الكتب أو تقرأها، وكذلك لا تحب المكتبة، ولا تعدّها شيئاً مهمّاً في البيت، كانت كثيراً ما تنزعج من تواجدها في البيت، وتجدها كياناً ثقيلاً ومكلّفاً، لاسيّما وهي من محبّي تغيير الديكور الشتوي والصيفي، ويشمل المكتبة، ممَّا يسبّب تفريغها وإعادة ترتيبها جهداً إضافياً، فاسمع تعليقاتها اللاذعة، ما فائدتها وما حاجتنا لهذه الكتب كلّها، لو بعتها لوفّرت لك مبلغاً، على سبيل المثال، أو احتفظ بكتب قليلة بدلاً من هذا العدد. لكنَّها في الوقت نفسه باتت تعترف بوجودها، وتشعر بأهمّيتها من الأقرباء والأصدقاء، وكانت أيضاً لا تعترض على شرائها وكنت لا أتأثّر بكلامها، ولم يثنني عن حبّي للكتب وإنماء المكتبة بكلِّ جديد، على الرغم من أنَّه يؤثّر في ميزانيتي، لكنّني لا أعتقد أنَّ كاتباً ما يفكّر في ميزانيته، فالكتب تأخذ حصّة الأسد ربَّما على حساب إيجار بيته، وتبقى لكلّ كاتب طريقته المثلى في التعامل مع الكتب، وطريقة الاحتفاظ بها أو تغييرها، فلا يمكن لكاتب ما أن يجمع هذا العدد الهائل من الكتب في مكتبته، أمام هذا الكم من الإصدارات الجديدة السنوية، فضلاً عن الإهداءات، هذا الكم كلّه يحتاج إلى سعة مالية ومكانية. وعلى الرغم من توفّر المكتبات الإلكترونية من كتب نسخ (pdf)، لكن تبقى المكتبة الورقية وجود قيمي وجمالي يحمل معنى الحياة.

العولمة وكتبها

ويشير الشاعر مهدي القريشي إلى أنَّ البيوت التي تتوفّر فيها فسحة مكانية لإشغال مكتبة تكون أخف وطأة على الزوجة من غيرها، وبالتالي تكون مكاناً مريحاً للقراءة فيقضي الزوج معظم وقته سياحة في بطون الكتب والتنزّه بين عنواناتها والتفرّد مع أبطال الروايات والقصص.

وقد نقل لي بعض الأصدقاء معاناته في إقناع زوجته بوجود المكتبة الشخصية، لكنَّ جهوده باءت بالفشل وبقي رأي زوجته المخالف والعصبي والمحرج يطارده ولم تتزحزح قناعاتها بوجود مكتبة شخصية واعتقدت أنها أصبحت شريكتها غير الناطقة، ومن أقوالها المأثورة كما ينقل لي صديقي: إنَّ زوجي يقضى معظم وقته مع الكتب التي لا تُغني ولا تشبع من جوع، أكثر ممَّا يقضيه معي أو مع أولاده. وبرغم ما يتمتّع به الزوج من خبرة مضافة في الحياة ووفرة مواهب في الحكي وإقناع مخالفيه في الأدب والثقافة وطريقة الحياة، لكنه عجز عن إقناع زوجته بأنَّ وجود هذا الكائن المسمّى مكتبة من ضرورات الحياة الآنية.

أمَّا على المستوى الشخصي؛ وحتَّى أكون قريباً من الحقيقة، لم تكن لزوجتي علاقة حميمة مع المكتبة برغم أنها تخصّص بعض أوقات فراغها بقراءة بعض الروايات وتستأنس تواجدها في معارض الكتب، لكنَّ ما يثير حفيظتها في البيت فوضى الكتب وبعثرة الأوراق لإشغالي أكثر من مكان للقراءة والكتابة، وقد توصّلنا إلى حلٍّ يرضي الطرفين بإنشاء مكتبة جديدة أكبر من القديمة بشرط أن تليق بديكور البيت وتتموسق مع أثاثه. ولم تبدِ اعتراضاً على وجود المكتبة، بل إنَّها تثني على وجودها لأنَّها مرتبطة برغبتي قائلة إنَّ من غير المنطق أن أقف بالضد من رغبتك، فوجودها يوفر لك متعة القراءة والراحة النفسية.

ويضيف أنَّ التطوّر الحاصل في التقنيات الحديثة ودخول الإنترنت ووفرة الكتب الإلكترونية قلّلت من حجم المكتبة الشخصية، وقلّصت من اتساعها مستقبلاً وخفّفت بعض الشيء من التوتّرات التي كانت تحصل بين الزوجين، وهذه من حسنات العولمة برغم مساوئها الكثيرة.

لم يكن وجود المكتبة الشخصية حديثة عهد في البيوت إنَّما كانت وما زالت تشكّل ركناً أساسياً في بيت أحد أفراده مولع في القراءة، وبرغم اختلاف أهمّيتها من بيت إلى آخر حسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للعائلة، إلَّا أنَّ الزوجة حاملة علامة استفهام كبيرة وجاهزة لإثارة المشكلات كلّما سنحت الفرصة في عدم تنفيذ طلباتها، لاسيّما البيتية.

خذها برفوفها

وبحسب الشاعر أمير ناصر أنّه غالباً ما يكون الكتاب ضيفاً غير مُرحّب به في البيت من قبل العراقيات سابقاً أو حالياً، وقد تعرّضت الكتب إلى محارق عدة من قبل الزوجات والأمهات في العهود الغابرة، خوفاً على أزواجهنَّ أو أبنائهنَّ من (التحوّل الفكري) أو اكتساب فكر مضاد للسائد، وقد شهدت التنانير العراقية في الخمسينات والسنوات التي تلتها إحراق كميات كبيرة من المكتبات الخاصة التي لا يمكن نسيانها أبداً (لمجرد أنَّها كتب ليس إلَّا، دينية- فكرية- أو أدبية).

وربَّما هذه الحالة (شكّلت) عند العراقيات فيما بعد عقدة من اقتناء الكتب، لأسباب كثيرة منها صغر البيوت في الوقت الحاضر، وكثرة وتعدّد الأثاث المنزلية، وبالرغم من أنَّ المكتبة تنمو بمرور الزمن ولا تأتي دفعة واحدة، إلَّا أنَّ الزوجات يعتقدنَ، أنَّها شريكة (أي المكتبة) في المصروف اليومي، لذلك يلجأ كثير من مقتني الكتب إلى الادعاء بأنَّها جاءت هدية من مؤلّفها، وغير ذلك، من الحجج.

في التسعينات كنّا نبيع الكتب أنا وبعض الأصدقاء في شارع المتنبي، وتوفّرت لي فرص كثيرة لدخول عدّة بيوت من أجل شراء ما يعرضونه من مكتبات، (لسد بعض حاجاتهم اليومية) في سنوات الجوع المريرة. وأتذكّر جيّداً في إحدى المرات همست لي سيدة: “خذها برفوفها (تقصد المكتبة) ليس لدينا مكان كافٍ لها، لا أريدها” قالتها وهي تمسك بمقشة بغية تنظيف المكان بعد طرد المكتبة.

ومع ذلك فلا يصح لنا تعميم هذا الأمر على النسوة جميعهنَّ أو البيوت العراقية.

 طريق معبّد

ويختتم الشاعر رحيم زاير الغانم حديثنا قائلاً إنّه قد تبدو علاقة زوجات المثقفين والكتُّاب بحسب الظاهر مع الوافد الدائم إلى بيوتهن غير معبّدة بالورد، ممَّا قد يُثير الريبة من علاقة كهذه. فهو على الرغم ممَّا يُشاع مُناف للحقيقة في كثير من بيوتات المثقفين والكتُّاب بما توفّره الزوجات من مناخ مناسب يتمكّنون فيه من ممارسة فعلهم الثقافي، بديمومة القراءة والإنتاج الإبداعي في الحقل الذي اختطَّوه لأنفسهم، وأجدُ في تجارب عديدة الدعم من شريكة الحياة، وهو ذاته ما جعلني استمرُّ في الكتابة والتأليف، بل ذهب بي المقام إلى إكمال دراستي العليا بفضل التفهّم الكبير للصلة الوجودية بيني وبين الكتاب، التي لا فكاك منها.

نعم، تُوجد حالة فردية هنا وأُخرى تفهم هناك، الذي يزيدها بلّة عدم إيضاح جدوى الكتاب في حياة المثقف من المثقف نفسه لشريكة الحياة، عندما يرى المثقف في القراءة عزلة حتَّى عن الأقربين، مُثيراً حفيظة الطرف الآخر، ليصبح في منظوره الكتاب خصماً لا مسألة وجود إنساني، لذلك على المثقف توظيف الفكر النيّر من أجل ترطيب مناخ الزوجية، لكي تُحترم الثقافة والكتاب والإنسان معاً، من أجل دفع عجلة الإبداع إلى الأمام من دون تقاطعات تعكّر الأجواء.