ثالوثُ الحِوار والتّطرُّف والتّأويل

ثقافة 2024/06/05
...





أحمـد عزيـز الحسين *





 يضؤل الحوار في الجدل العقائديّ والأيديولوجيّ بين الذّات والآخَر؛ ويكاد ينعدم؛ لأنَّ الحوارَ يشترط الاعترافَ بالآخَر، واحترامَ رأيه، كما يتطلَّبُ اختلافَ (الذّات المحاوِرة) عن (الآخَر)، واستعدادها للتّغيُّر في أثناء الحوار، أو بعده.

 وفي الجدل المذكور ثمّة نفيٌ للآخر في الغالب، وعدمُ اعترافٍ بكينونته الإنسانيّة، واستقلاليّة شخصيّته، وقدرته على التّفكير، وحقّه في أنْ يؤمن بما يشاء، ويتّخذ أيَّ منهجٍ يشاء في التّفكير، والتّحليل، والتّركيب، والحكم؛ ما يعني تغييبَهُ، عملاً بقول ديكارت: (أنا أفكِّر إذاً أنا موجود)؛ ولذلك يغيب الحوارُ عن الحالة المذكورة، ويصبح بين الذّاتِ ومرآتها، وتنعدم القدرةُ على إيجاد قواسم مشتَرَكة بين الذّات والآخَر، ويسعى كلُّ طرف إلى سحق الطّرف الآخَر، ومحْوِ اختلافه عنه، وجعله نسخةً طبق الأصل منه، وهذه سمةٌ للحوار العقيم في المجتمعات البطركيّة التي تنهض على التّطرّف، والتّعصّب للرّأي، وإقصاء الآخَر. 

 ويذهب كثيرٌ من الباحثين، وفِي مقدّمتهم هشام شرابي (1927-2005)، إلى أنَّ العقل العربيَّ عقلٌ (بطركيٌّ) لا يعترف بالخطأ، بل يرى أنّه على صواب دائماً؛ ولأنّه كذلك فهو غيرُ قادرٍ على التّطوُّر؛ لأنّ من يعتقد أنّه على صواب دائماً يظنُّ نفسَهُ (كاملاً)، ولا يحتاج إلى إثراء معارفه، أو تعديل رؤيته، أو تطوير منهجه، وهو لذلك لا يقبل الحوارَ مع (الآخَر)؛ أو لا ينتفع منه إنْ قام به، وقد كانَ المفكّر إلياس مرقص (1927- 1991) يرى أنّ المبدأَ الأوّلَ في الاجتماع البشريِّ هو (الاختلافُ)، والمبدأَ الثاني هو (اختلافُ الاختلافِ)؛ لأنّ المرءَ لو ذهبَ إلى أنّ الأشياءَ مختلفةٌ بشكلٍ واحدٍ، وعلى نحوٍ واحدٍ؛ لكان كمنْ يدّعي أنّها غيرُ مختلفةٍ، وانتهى إلى هاويةِ العدم. والناسُ، رغم انتسابهم إلى زمر، لهم صفاتٌ متجانسةْ إلا أنّ بينهم (اختلافاً) حتى ضمن الزُّمرة نفسها، كما يقول مرقص، وهذا يعني أنّه ليس هناك من تطابُقٍ بين أفراد الزُّمرة الواحدة، بل هناكَ اختلافٌ كبيرٌ بينها، وهو ما يُثرِي الزُّمرةَ نفسَها، ويرتقي بالمجتمعِ عينِهِ. 

وفي الأنظمةِ الاستبداديّةِ تُبذَلُ جهودٌ كبيرةٌ لإلغاء (الاختلافِ) بين أفراد الزُّمر المختلفة، وتكوين كتلةٍ اجتماعيّة مُصمَتَةٌ تتبنّى منهجاً فكريّاً واحداً، وتتّبع آليةَ تفكيرٍ واحدةً، وهو ما يضمن لهذه الأنظمةِ الاستمرارَ مدّة زمنيّة طويلة، ويُجبِرُ الأفرادَ على التّحوُّل إلى قوالبَ نمطيّة متشابهة لا تمايُزَ كبيراً بينها، وهذا ما يجعلُها تعتنقُ التّفكيرَ المُمْلى عليها إلى حين؛ فتغدو عندئذٍ كأحجار الشّطرنج يحرِّكها حكّامُها وولاةُ أمرها كيفما يشاؤون؛ غير أنّ هذا، مع ذلك، يخالفُ منطقَ الاختلاف وطبيعتَه، وتموضُعَهُ على أرض الواقع، ويجعل (الأفرادَ) يتمرّدون على محاولات تنميطهم، واختلافهم عن بعضهم من خلال تمرُّدهم على طُغاتهم، ومُنمِّطي عقولهم، وهو ما حدثَ في وطننا العربيّ وغيره في الماضي البعيدِ، والقريبِ معاً.

 وقد لخّص المفكّرُ النّهضويُّ عبدالرّحمن الكواكبيّ (1855- 1902) مفهوم الاستبداد وآليّة اشتغاله على الصّعيدين الاجتماعيّ والسّياسيّ في الفصل الأوّل من كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد-1899)؛ إذ جعل التّعصُّبَ في الرّأي نوعاً من أنواع الاستبداد، وشكلاً من أشكال الجهل، وأشار إلى أنّ الاستبدادَ يُضارِع الاعتسافَ، والتّسلُّطَ، والتّحكُّمَ، وجعل من صفات المستبِّد الغرورَ، والتّعصُّبَ للرّأي، وتجاوزَ الحدّ، والرّغبةَ في سحق الآخر ومحوهِ سعياً إلى التّسيُّد، سواءٌ أكان هذا التّسيُّد سياسيّاً، أم اقتصاديّاً، أم اجتماعيّاً، وهو نزوعٌ عامٌّ نجده لدى المتطرّفين، ولاسيّما على المستويين الأيديولوجيّ والدّينيّ، ويمكن أن نجده في بعض المناهج النّقديّة التي تغلِّب الأيديولوجية في النّصّ على آليّة التّشكيل الفنيّ، وتذهب إلى أنّ النصّ الأدبيّ يحمل دلالةً واحدةً فقط، هي الدّلالة التي يشكِّلُها الكاتبُ، ولا يجوز للمتلقّي أن يستَنبِط منه دلالةً مغايرةً لما سعى إليه مؤلِّفهُ، كما لا يجوز لقارِئَيْنِ أنْ يحلّلا نصّاً واحداً تحليلاً مغايراً، وأن يستنبطا منه دلالتين مختلفتين، وفي هذه الحالة يغدو النّصُّ فقيراً ومسطَّحاً من النّاحية الفنيّة، وكثيفاً ومعتماً من النّاحية الدّلاليّة، كما يقول واين بوث، وتنعدم قدرةُ الكاتب فيه على التّستُّر، ويظهر بين أسطره بشكل مفضوح، وتتضاءل فيه الرّموزُ، والصّورُ الفنيّةُ، والشّفراتُ اللُّغويّةُ، وتهيمن عليه اللغةُ التّقريريّةُ، وقد يموتُ بعد ساعةٍ من ولادته إذا كان صاحبه يحمل ذاتاً مفعمةً بالغرور، ويرى أنّه (لوياثان) قادر على التّمدُّد والهيمنة على عقل القارئ، وآليّة تذوُّقه.

 والواقع أنّ سويّةُ تأويل النّصّ ترتبط، في هذه الحالة، بسويّة المؤوِّل المعرفيّة، والمنهج النّقديّ الذي يتّكئ عليه، والآليّة التي يتبنّاها، والأدوات التي يعتمدها، ولكلِّ مؤوِّلٍ منهجٌ خاصٌّ به في ذلك، ولن يحسنَ المؤوِّلُ فكَّ رموز الشِّفرات الموجودة في النصّ، وترويضه، والكشفَ عما فيه من رموز ودلالات منبثّة في ثنايا نسيجه إلا إذا كان ذا مستوى عالٍ من الثقافة الشُّموليّة، والوعي النّقديّ الكافي. 

 وتتردّى سويّةُ التّأويل في ظنّي مع تردّي مستوى المؤوِّل المعرفيّ، وغموض مفاهيمه، وتعثّر مصطلحاته وأدواته، وقلّة خبرته الجماليّة، وتدنّي ذائقته الفنّيّة والنّقديّة، ويمكن ملاحظة هذا لدى كثيرٍ من المتلقّين، والنّقّاد العرب؛ ولذلك لا يستطيع متذوِّقٌ متردِّي السّويّة الفنيّة التّواصُلَ مع نصّ متميِّز، سواء أكان مقروءاً، أم مسموعاً، أم مكتوباً إلا بعد أن يتجاوز المعايير التّقليديّة المُتّكأ عليها في قراءة النّصّ، والحكمِ عليه.

 وفي ظنّي أنّنا حين نقرأ النّصِّ الأدبيّ في ضوء علاقته بالواقع الخارجيّ (أو الموضوعيّ) بغية وصفه وتأويله وتقييمه فإنّنا نطابِق بين الواقع الخارجيّ والواقع المُتخيَّل، ونُغفِل آليّة دخول (الواقع الخارجيّ) إلى النّصّ الأدبيّ، وكيف أصبح جزءاً منه، في حين أنّ المهمَّ في النّقد النّصّيّ كيف شكّل الكاتبُ هذا الخارج، وجعله عنصراً بنيويّاً في نصّه، بحيث غادر هذا الخارجُ واقعَه الحقيقيّ، وأمسى عنصراً فنيّاً في بنية مُتخيّلة، متّكئاً في ذلك على تقنيّات محدّدة اعتمدها الكاتب في آليّة تشكيله له؛ بحيث غدا (الخارجُ) الموجودُ في داخل النّصّ منفصلاً عن (الخارج) الموجود في الواقع الحقيقيّ (أو الموضوعيّ)، وعنصراً في بنية نصٍّ متخيَّل؛ ولهذا لا يجوز، في أثناء القراءة والتّقييم، أن نعود إلى الواقع الخارجيّ لتأويل النص الأدبيّ والحكم عليه؛ لأنّ ذلك يعني أنّ النّصّ لم يكتسب وجوداً موضوعيّاً مستقلًّا عن الواقع الموضوعيّ، ولا يزال بحاجة إلى مطابقته مع الخارج كي يُؤوَّل، أو يُحكَم عليه، في حين أنّ النّقد ينبغي أن ينحصر في مقاربة آليّة تشكيل هذا (الخارج) بعد أن أمسى مستقلًّاً بنفسه، وعنصراً فنيّاً من عناصر النًّصّ، واكتسب صدقيّة داخليّة من خلال تضافُره مع عناصر النّصّ الأخرى في تشكيل بنية النّصّ نفسه، وتشفير مستواه الدّلاليّ. 

 إنّ مطابقتنا بين (الخارج) الموجود في بنية النّصّ و(الخارج) الموجود في الواقع الحقيقيّ؛ يعني ببساطة أنّنا نخلط بين أمرين لا يجوز المطابقة بينهما، ويُفضِي إلى الاعتراف بأنّ الاثنين من طبيعة واحدة، وهذا في ظنّي إجراء نقديّ لا تسوِّغه نظريّة الأدب والفنّ وأعرافُها؛ لأنّ الواقع الموجود داخل النّصّ مُتخيَّل ومصنوعٌ من الورق أو اللُّغة، وليس واقعاً حقيقيّاً يمكن القبضُ عليه؛ أو التّأكُّد من وجوده، في حين أنّ الواقع الحقيقيّ له وجودٌ موضوعيّ مستقلٌّ عن الإنسان؛ ولهذا قال الشّكلانيُّون الرّوس والبنيويّون وأنصار النّقد الجديد (ومنهم شيكلوفسكي وجاكوبسون وتودوروف وبارت): إنّ الشّخصيّات في النّصّ السّرديّ مصنوعة من اللُّغة، وليست شخصيّات حقيقيّة من لحم ودمّ، ورفضوا المساواة بينهما، كما رفضوا المطابقة بين المكان الواقعيّ والمكان المُتخيَّل، وبين الزّمان الفيزيائيّ والزّمان السّرديّ، وطالبوا بمراعاة هذا كلّه عند قراءتهم للنّصّ الأدبيّ، ومحاولة تأويله، وإطلاق حكمٍ نقديّ عليه.

 وقد لاحظتُ، من خلال خبرتي المتواضعة، أنّ المتذوقَ العربيّ عموماً لا يُحسِنُ تذوُّقَ (دَوْرٍ) غنائيٍّ، أو (موشَّح)، أو (قصيدة) مُغنَّاة، ولا يجيد تحليل لوحة فنيّة مشغولة ببراعة، ولا يملك المؤهِّلات الكافية للحكم على ما يراه أو يسمعه من أعمال فنيّة، بسبب ضحالة ثقافته النّقديّة. كما أتيح لي، بوصفي متواصلاً مع تراث عصر النهضة الغنائيّ والموسيقيّ ( 1850-1950)، أن أنشر بعض التّحليلات الفنيّة لقطع موسيقيّة أو غنائيّة من هذا التّراث، في منابر ثقافيّة مختلفة منها (الأوان) و(النّاس نيوز) و(رأي اليوم) اللندنيّة، و(الرّافد) الإماراتيّة؛ فلم أجد صدى له عند المتذوِّق العربيّ، أو لدى كثيرٍ من الأدباء والمثقّفين العرب.

 وقد نجد بعضَ المتذوِّقين والنُّقّاد يتقصّدون خيانةَ البنية الفنيّة للنصّ الأدبيّ، وإدارةَ الظّهر لها، والانشغالَ بصاحبها عن النّصّ نفسِهِ، وقراءةَ النّصّ في ضوء علاقته بصاحبه، والحكمَ عليه بما تقتضيه هذه العلاقةُ، وفي هذه الحالة يُحمَّل النّصُّ ما لا يحتمل، ويغدو التّأويلُ مقطوعَ الصِّلة ببنية النّصّ نفسه، وتُمسِي القراءةُ متعلِّقةً بمحيط النّصِّ الخارجيّ لا ببنية النّصّ الصُّغرى، ولا يبقى لهذا النّوع من التأويل قيمةٌ يمكن أن يُعتَدَّ بها في حقل النّقد الأدبيّ أو الفنّيّ الذي يحكم على النّصّ من خلال تحليل بنيته الفنيّة لا من خلال عوامل أخرى لا علاقة لها بهذه البنية. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب سوريّ