التناقل والتناقل المضاد

ثقافة 2024/06/06
...

  جينا سلطان

حين تخترق الطفرة الخبيثة المصفوفة الإنسانية الكامنة بين الكاف والنون، والتي تجسد كونا أصغر يكافئ العالم الأكبر، فإنها تشير ضمنيا إلى وجود خلخلة داخل المنظومة الجسدية والعقلية المتكاملة.
ويمكن أن يعزى ذلك إلى انحسار الخوف وتواريه داخل طبقات اللاوعي الأعمق، حيث الرغبات غير المحققة والمسؤولة عن تغذيته.
وعلى غرار أبطال رواية ألكسندر دوماس الفرسان الثلاثة الذين يخوضون مغامراتهم الخطرة للحفاظ على شرف السيدة النبيلة، كذلك يخوض المحامي رامون والطالب إدوارد والمعالجة النفسية تيريزا معركة كفاح مؤلمة للحفاظ على ما تبقى من ذواتهم المتشظية بفعل تلك الطفرات.
فيما يسعى رابعهم طبيب الأورام خواكين ألداما المبتلى بالشبق الجنسي للسيطرة على نفسه من خلال تكرار سماع مقطوعة باخ الشهيرة والمعزوفة على القيثارة، حتى تخمد ناره المتقدة، مما يضعه مع المرضى على نفس الدرجة من ارتقاء درب الآلام لاجتراح معجزة شفاء لا تأتي.
لأن اجتثاث العلة يقترن باعتلاء مجموعة جديدة من الإحداثيات متن المخيلة المترنحة تحت وطأة سؤال: "لماذا أنا؟"، وبالتالي تتكرس المشكلة القديمة وفق نمط جديد مستحدث، وتخلق معها مستويات أعمق من الألم الذي يعادل المعرفة.
لذلك يقدم الروائي المكسيكي الشاب خورخيه كومنسال روايته "الطفرات" بعبارة منسوبة للكاتب روساريو كاستيجانو: ويخالجك ذاك الشعور بأن خطأ ما قد تسلل وسط الكلمات المتقاطعة ليجعل منها عصية على الحل.
في سبعينات القرن الماضي راجت شهرة الطبيب والباحث الألماني دتلفزن، الذي اعتبر المرض بمثابة فرصة للشفاء، في حال أدرك الإنسان ماهيته والمساحة الفعالة التي يتحرك ضمنها.
فإصابة الكبد على سبيل المثال وافقت سعار الحقد في نفس المريض، وعجزه عن التسامح، بينما أشرت مشاكل القلب إلى غياب الحب بمعناه الواسع.
وبالعودة إلى الرواية يصاب المحامي اللامع بسرطان في اللسان، والذي يهاجم عادة الأطفال بعمر السنتين.
فيستأصل منه العضو المسؤول عن الكلام، بينما تتطلب مهنته البراعة فيه.
أما تيريزا الطبيبة النفسية المتخصصة بعلاج المحتاجين للمساعدة من آثار العلاج الكيمياوي، فكانت تقوم بالتحليل وليس الاستماع، رغم أنها أصيبت بسرطان الثدي ونجت بعد فقدانها التام للأنا.
بالمقابل، رسمت اللوكيميا خط حياة إدوارد منذ طفولته المبكرة فوجد عقله المخذول الملجأ في الرُهاب وفي الحرب دون هوادة ضد الجراثيم، وبهذه الطريقة ينقذ "نظام المعنى" وفقا لنظرية جان لاكان لتعريف الأب.
يطرح كومنسال موضوع تناقل الخوف بين المريض والطبيب النفسي من خلال استعراض تداول الطاقة بين إدوارد وأمه العزباء، والذي انعكس في إطار مبالغة في الحماية المفرطة للطفل السقيم.
وبذلك موهت رغبتها بأبٍ مستقبلي مهدد وصارم، فرتب السرطان هذه الوظيفة للأب في لاوعيها.
وبالتالي، لم يكن التخلي عن التعليمات الاحترازية الصارمة للنظافة الشخصية بالنسبة إليه إلا محاولة لقتل اللوكيميا مرة أخيرة وبلا رجعة، أي قتل الأب المستنسخ في لاوعي الأم.
ومن واقع أمومتها المجهضة تمنت تيريزا كثيرا أن يكون بمقدور إدوارد تجاوز حالة اختباء السرطان وراء صورة الأب ليحيا حياة طبيعية.
وحاولت إيهام طبيبتها النفسية بأن تشخيصها لحالة إدوارد لا يعني تناقلا لحالتها، رغم فشلها في تقصي مستوى علاقتها الشخصية المعقدة مع السرطان الذي بقيت متطلباته المدفونة في أعماقها لا تكف عن مساءلتها.
جسد رامون نموذجا للشخصية البطريركية التي جعلت منه رجلا منفتحا وقويا ومزهوا بنفسه، فالحياة بالنسبة إليه تحكم وكفاح ورخاء، فإما تغلب أو متعة.
وفجأة أصبح لا شيئا، وفقد الوعي بجسده المريض الذي صار آخر.
فغابت لديه أي ردة فعل على المستوى العاطفي وبالتالي لم يكن يعرف عن نفسه أمام تيريزا كمريض.
فأطر المؤلف حالته تحت بند "الصمت يفصلك عن الجسد"، حيث أدى غياب أي نوع من الإيمان إلى فقدان الشعور بعقدة الذنب وجلد الذات.
وبذلك تسبب البتر في انحسار كافة الخيالات النرجسية التي تصل الأنا بالجسد.
وحال فقدانه للسانه دون إمكانية تحديده للتعريف الكائن بين العقل والجسد.
يحلل كومنسال شخصية طبيب الأورام، الذي ينتهي به المطاف مصابا بالاكتئاب، وكأن روحه تغيب كليا كي لا يصيبها العفن.
ففي مكان ما من لاوعيه يقبع محرض أو حادثة أو صدمة أو بطولة مازوخية أو فضول خبيث، يمكن تفسيره كرغبة في محاكاة الأب، بقتله أو بإرضائه أو بامتلاك إقامة دائمة في جناح مشفى مخصص للأغنياء فقط.
وبالتالي تصبح عيادته بمثابة مسرح لجريمة نفسية، إذ تكمن خلف الشهادات التي تزين الجدران دوافع هاربة من الضوء خوفا من أن تكشف.
لذلك كانت حياة خواكين ألداما المهنية معركة ضد القدرة التدميرية للجسد.
ومن خلال شخصية ألداما يبرز المؤلف منطق القرن الحالي النرجسي، حيال مفهوم الصحة التي تظهر في الإعلانات المتلفزة كوهم دعائي لبيع الفيتامينات والسلطات والألبسة الرياضية، وجميعها غير ذات نفع أمام تعبير الجسد عن علاقته مع العالم كالأوبئة والسل على سبيل المثال في أزمنة أخرى.
وبذلك يكشف السرطان المهزلة الهائلة للتوازن الطبيعي؛ إذ لم تكن الصحة أبدا حالة من السلام والانسجام مع الداخل، بل جسدت في الواقع انتصارا آنيا وعابرا على الفوضى.
يختزل ألداما المعرفة المعادلة للألم برمزية الأفيون الذي يُعطى للمحتضرين، فتغطى الأعصاب به وتهدأ وتتوقف عن إثقال الوعي بإشارات ومعلومات غير منتهية حول الوضع الكارثي للجسد.
ولأن الألم يعني معرفة وُجد الجلادون، الذين يملكون فراغا داخليا كبيرا وتفاهة بالغة. بالمقابل، هنالك الكثير من مدمني الهيروين، الذين كان عالمهم عسيرا لدرجة أن وسيلة المعرفة الوحيدة لديهم تجسدت عبر الألم.
ويتخذ هذا الألم في نهاية السرد الروائي المدهش هيئة رامون وهو يفتح فمه كفرخ حمام جائع يتوسل طعام أمه، كما فعل سابقا أمام المرآة فشابه قرد البابون الغاضب قبل أن يبتر لسانه.