د. كريم شغيدل
تقترح بعض التجارب الشعرية فضاءات بصرية مستنبطة من التراث الكتابي القديم، كاتخاذ هيئة المخطوطات العربية القديمة إطاراً بصرياً لفكرة كتاب وليست قصيدة، ككتاب أدونيس {أمس المكان الآن} بتقسيمه الصفحة على ثلاثة مستويات بصرية، {توزيعاً وطباعة} متناً وهامشاً وحاشية، وبقصدية معلنة بدلالة العنوان الفرعي للكتاب {مخطوطة منسوبة إلى المتنبي}، أو اقتراح الفضاء الشكلي المفتوح للمخطوطة العربية، من محاكاة البنية الصورية للخط إلى الإشارة والطغراءات وغيرها، كما في تجربة {جوائز السنة الكبيسة} للشاعر العراقي الراحل رعد عبد القادر، والتي تكاد تكون فريدة في الشعر العراقي المعاصر، وهي من التجارب ذات القصدية الجزئية، إذ عهد الشاعر بتنفيذها خطياً إلى الشاعر حكمت الحاج.
يلحق بهذه المسارات المتفرعة، مظاهر فضائية أخرى، قد لا يعول الشاعر إلا على مقصدياتها السمعية، بيد أنها تؤدي فعلاً بصرياً، يمكن الإحاطة به نقدياً والتعويل على دلالاته، مثل توزيع الأسطر، توزيع مساحات السواد والبياض، علامات الترقيم، الفراغات المنقطة، وغير المنقطة، تقطيع الكلمات أو الجمل، وغيرها، مما يتضح دوره البصري سواء في قصيدة النثر أم في قصيدة التفعيلة أو في الشعر الحر عموماً، وهذا هو ما عنيته ـ تحديداً ـ بالفضاء المهمل للنص العربي الذي ظل النقد إلى أمد طويل، يتردد في جعله منبهاً بصريا دالاً، حاسباً إياه منبهاً سمعياً، أكثر منه بصرياً، يؤدي وظيفة السكتات "النقط، الفوارز" أو ينبه إلى سياق صوتي "علامات الاستفهام والتعجب" بوصف الكتابة مجرد وسيط لشفاهية الشعر أو سماعيته.
عرف الشعر بأنه فن زماني، لما يستغله من حيز زمني بحكم وظيفته السماعية، والرسم فن مكاني بحكم وظيفته البصرية، وقد التقى هذان الفنان عبر جذور ضاربة في القدم، لقرون عديدة من دون أن يتبادلا وظيفياً على مستوى التمثيل الفني، على الرغم من أن التمثيل الوظيفي/ الاجتماعي/ كان حاصلاً ما بين اللغة والصورة إبَّان ما يسمى "مرحلة الكتابة الصورية" وهذا يعني أن اللغة عموماً، بوصفها نظاماً إشارياً، لها قابلية "التمثيل المكتسب"، قبل مرحلة الكتابة، أي إن اللغة اكتسبت وسيطاً بصرياً، لا لتعيين إشاريتها، بل لتعيين مدلولاتها "تجسيد المسميات لا التسميات" من دون وسيط إشاري حتى مرحلة الكتابة التي راحت تحاكي الإشارة الصوتية برموز بصرية، مع احتفاظ الكلمة المنطوقة والمرسومة والمكتوبة بقدسيتها وسحريتها وأسطوريتها، كما في نظام مستقل بدرجات متفاوتة حسب المراحل التاريخية وطبيعة النظم السائدة، وجدير بالذكر إن أية صورية لاحقة، أو أي فعل بصري لاحق تسلل بقصد أو من دون قصد عن طريق الكتابة، ما هو إلا مواجهة لنمطية الأشكال، فالكتابة بذاتها شكل، له مرونة تحول خارج النمط، ويمكن أن تكون لها غاياتها الذاتية، كما يمكن أن تكون لها بلاغتها وجماليتها وإعجازها، على الرغم من أنها وسيط لتدوين الملفوظ، مثلما للغة بلاغتها وجماليتها وإعجازها، وهي ليست أكثر من وسيط لفظي لإيصال الفكرة، وهنا يتبادر للذهن السؤال الآتي: لماذا نعتقد أن اللغة غاية من غايات الشعر وليست مجرد وسيلة للتعبير، بينما ننكر على الكتابة أن تكون غاية من غايات النص المكتوب؟ مع أننا أصبحنا نطالع أساليب مختلفة في كتابة النص الحديث على مختلف أشكاله وأنماطه، حتى من دون مقصديات بصرية واعية.
إن الكتابة بكونها شكلاً مرئياً، ما هي الا فسيفساء مشكلة من حروف أو شكل زخرفي منتظم، مركب من وحدات "أيقونات" ينطوي على نفعية الدلالة "اللغوية" وهذا الأيقون ينطوي حتما على دلالة محايدة أو مستقلة عن المنفعية الأولى، تتحدد على ضوء مقصديتها وتعالقها الدلالي مع النص، علاقة النص بالكتابة إذاً هي علاقة جسد، بمعنى آخر إن النص الذي يكتفي بالوظيفة السماعية متمما من خلال ذلك معطياته الشعرية من دون الحاجة إلى حيز مكاني يحتويه هو ـ بالضرورة- فرضية هلامية لجسد، طالما أنه متأسس على بناء هيكلي أو ينتج معطيات بصرية في مرحلة لاحقة، والعلاقة الخطية هي علاقة حركية وانعكاس حركة يد الكاتب، ومن ثم حركة انتقال عين القارئ، فالكتابة مع أنها لا تمت بصلة إلى النظام الداخلي للغة، إلا أنها تستعمل كثيراً لتمثيل اللغة أو التعبير عنها، فإذاً لا يمكن إهمال الكتابة، بل يجب أن نلمَّ بفوائدها وعيوبها ومخاطرها، وهنا لا بدَّ من تأكيد مقولة سوسير باستقلالية اللغة عن الكتابة، فاللغة لها تقليد ثابت محدد مستقل عن الكتابة، ويمكن أن نوجز الأسباب التي أكسبت الكتابة أهمية "لا تستحقها" بحسب تعبير سوسير وباستعارة بعض مفاهيمه، مثل الوحدة الوهمية وأولوية الانطباع البصري فضلاً عن الأسباب الأخرى لديه، فضلاً عن أن الشعر لم يكتب قبل مرحلة التداول، فبعد أن كان يرتجل أو ينشد ثم يتداوله الناس ثم يدون، فقد أصبح فعل كتابة الشعر هو الإنجاز وليس القول "قول الشعر" ولم يعد المتلقي يسمع أو يحفظ، إنما أصبح يقرأ، بمعنى آخر إنَّ جزءاً كبيراً من الذاكرة تحول إلى مطبوعات جاهزة.
شغلت "الكتابة" ذهنية المتلقي بأبعاد مختلفة، كأن تكون أبعاداً دينية "الخط القرآني وخصوصياته الإملائية" أو صوفية "الحروف والإشارات وغيرها "وسحرية "التعاويذ والجفر والطغراءات" وثقافية "التوقيع، الاختام" فضلاً عن التدوين العام والخاص في المجالات المختلفة إلا أنها قد حققت اكتفاء توصيلياً، لذا جاءت عملية اقتراح علم لها متأخرة بالنسبة إلى علوم اللغة واللسانيات، وقلما نجد مقاربات بصرية تخرج عن نظرية "الجشتالت" ناهيك عن التكافؤ الموضوعي ما بين الكتابة بوصفها موضوعاً لسانياً والكتابة بوصفها واقعة بصرية على الرغم من وقوع "الكتابة" تحت تأثير حكم قيمة يلغيه ويهمله بحيث نشأ تقليد ثابت يقوم على التمركز حول الصوت منذ ما قبل أفلاطون حتى سوسير وقد انسحب هذا التقليد على النقد الحديث، بسبب تبعية بعض مفاصله للدرس اللساني متجاوزاً بذلك ما يمكن تسميته "العلاقة التجريبية" ما بين اللغة والكتابة التي وسمت النصوص المحدثة لتكريسها بقصديات متباينة.