الانتحار.. أعدادٌ مقلقة وأسبابٌ متعددة
علي غني
تصوير: خضير العتابي
ربما يتساءل البعض من القراء، لماذا هذا الموضوع الان؟، لماذا تصبح الحياة رخيصة على المنتحر، وهي أعلى قيمة عند الله، فقد يذهب المنتحر إلى قبره، لكن ما ذنب أهله حين تلاحقهم الأقاويل، وتموت حياتهم في الدنيا قبل الآخرة، هل ما نسمعه يوميا من حالات انتحار في اغلب محافظاتنا تشكل تحديا للنسيج الاجتماعي في العراق، فأكثر الذين يرغبون بإنهاء حياتهم يتصورون أنهم تخلصوا من العذاب الدنيوي، متناسين انهم سينتقلون لعالم الحساب، فما بين الانتحار وقتل النفس خيوط مشتركة ترتبط بكمية اليأس الذي يغطي الحالتين، لكن القانون والطب والدين أجمعوا على رفض (الانتحار المذل)، لوجود الرحمة الإلهية.
الجانب الإنساني
أظهرت الاحصائيات التي كشفتها وزارة الداخلية منذ اكثر من سنة على لسان متحدثها (سابقا)، وهو الان يشغل مدير دائرة العلاقات والاعلام اللواء خالد المحنا، عن عدد حالات الانتحار خلال الأعوام السبعة الماضية في العراق، تصاعدا مستمرا لهذه الظاهرة، لأسباب يعزوها المختصون إلى ثلاثة جوانب رئيسة (النفسي، الاقتصادي، الاجتماعي).
ويكشف اللواء خالد المحنا، إن "احصائيات حالات الانتحار من عام 2015 إلى 2022 والبداية مع عام 2015، اذ بلغت عدد حالات الانتحار في العراق 376 ما عدا إقليم كردستان".
ويضيف المحنا، انه "في 2016 بلغت 343 حالة انتحار، وفي 2017 بلغت 449 حالة، وفي 2018 بلغت 519 حالة، وفي 2019 بلغت 588 حالة، وفي 2020 بلغت 644 حالة، وفي 2021 بلغت 863 حالة، وفي 2022 بلغت 1073 حالة انتحار"، ولكننا مع شديد الأسف لم تتوافر لدينا احصائيات عن الأعوام الأخرى.
وكما يظهر من هذه الأرقام أن حالات الانتحار في تصاعد مستمر، وتعود أسبابها، بحسب اللواء خالد المحنا، إلى "الزيادة السكانية والوضع الاقتصادي والبطالة، فضلا عن العنف الأسري والجرائم الإلكترونية والابتزاز الإلكتروني الذي له تأثير مباشر في هذا الموضوع.
وبكيت
عايشت بعض حالات الانتحار، وأنا أزور أحد اجنحة الحروق في بعض مستشفياتنا، فوجدت الالم الدفين الذي تعيشه عائلة المنتحر، أكثر من المنتحر ذاته الذي كتبت له الحياة، وحتى الذي ودع الحياة بفعلته، فالوجوه التي تزور(مريض الانتحار)، أغلبها عبوسة، وشامتة، وكأنها تلقي اللوم على أسرته، فضلا على الملايين التي تصرفها أسرته عليه إذا عاش أو مات، فهم سيبقون في خانة الاتهام والمساءلة حتى يأخذ الله امانته، وأنا أكتب الموضوع، نقل لي أحد اصدقائي عن حالة انتحار لمواطن كان واحد من أبنائه متهما بالمخدرات والآخر بالإرهاب، وفصل من عمله، وساءت ظروفه وتلطخت سمعته بالوحل، فدفعته تلك الظروف إلى ان يشنق نفسه، وترك زوجته وابنته المراهقة يصارعان الحياة، فحكمت الحياة عليهما بالتشرد في الشوارع، بعد ان عجز اخوته من مساعدة البنت وأمها، وبعدم وجود متابعة من المجتمع المحيط به، دمرت عائلة كاملة.
الشعور بالعجز
وحين تأسفت الناشطة بحقوق المرأة والصحفية المثابرة نوارة العقابي عن شيوع ظاهرة الانتحار، فصدقتها لكثرة المنتحرين الذين يلقون حتفهم يوميا في العديد من المحافظات، ومن كل المستويات العلمية والثقافية وبشتى الأعمار ومن دون تحديد الجنس والعمر.
وبينت (العقابي): ان "عوامل الانتحار عديدة لكن اشدها وقعا هو العامل الاقتصادي، الذي يؤثر سلبا في نفسية الفرد مما يؤدي به للشعور بالعجز واليأس، ومنها ما يتعلق بالعنف الاسري والمخدرات والبطالة والابتزاز الالكتروني وايضاً ممن يعانون من اضطراب نفسي".
ودعت (الناشطة نوارة) إلى وقفة حقيقية من قبل الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، بخلق وعي كاف لدى الاسر بإرشاد ابنائها، فضلاً عن استحداث مراكز في المناطق السكنية للمرضى النفسيين، إلى جانب تفعيل دور وزارة الداخلية والشرطة المجتمعية بالحد من ظاهرة المخدرات، وحل المشكلات المتعلقة بالابتزاز الالكتروني، ومن المهم ايضاً ان تتعاطى المدارس والمؤسسات بالتربية الحديثة وما يتماشى مع العصر الحالي، وخلق جيل واع ومثقف يتمتع بصحة نفسية حقيقية.
خطر الاكتئاب
فيما اخذتني الدكتورة رنا طالب ياسين التدريسية في مركز دراسات المرأة/ جامعة بغداد/ في رحلة طويلة لتعرفني عن الأبعاد النفسية لظاهرة الانتحار وطرق العلاج والوقاية، فبدأت بتعريف الانتحار، الذي عدته فعلا (يوازي قتل النفس)، وهو رد فعل مأساوي لمواقف الحياة المجهدة، ولا يوجد سبب واحد وراء محاولة أي شخص للانتحار، ولكن توجد عوامل تزيد من خطر محاولة الانتحار، ويعتبر الاكتئاب هو عامل الخطر الرئيس للانتحار، لكن هناك العديد من الاضطرابات النفسية، والعقلية، وعوامل خطر أخرى يمكن أن تسهم في الانتحار، بما في ذلك الاضطراب الثنائي القطب والشيزوفرانيا، وتعتبر الأسلحة النارية أكثر الوسائل شيوعاً في الانتحار، بالإضافة إلى طرق أخرى شائعة تتمثل في تناول جرعة زائدة من الدواء والاختناق.
وعلى ذكر الأسلحة النارية من قبل الدكتورة (رنا)، فان كوارث حدث بسبب وضع الأسلحة في البيوت، وفي اماكن مكشوفة، كأن تكون على المنضدة او غرفة النوم، أو تكون معلقة على الجدار، فإن هذا السبب شجع العديد من اصحاب الاضطرابات النفسية على قتل أنفسهم، ومراكز الشرطة شهادة على العديد من هذه الحالات، فحذار من تركها في اماكن تكون في متناول اليد.
فصام الشخصيَّة
وأعود للدكتورة (ياسين)، التي عزت معظم الحالات أسباب التفكير بالانتحار إلى اضطرابات الصحة العقلية مثل: الاكتئاب، واضطراب ثنائي القطب. (الاكتئاب الهوسي)، وفصام في الشخصية، واضطرابات القلق، وتقلبات الشخصية، وإساءة معاملة الطفولة، ووجود تاريخ للعائلة في الانتحار للانتحار، فضلا عن وجود مرض مزمن.
لكن المدهش حين سألت الدكتور (رنا)، هل للبيئة علاقة بالانتحار، لتجيبني، "بالتأكيد، فالعوامل البيئية التي تزيد من خطر الانتحار بسبب أحداث الحياة المجهدة مثل فقدان شخص، أو وظيفة، أو حيوان أليف (وهذا سبب غريب اسمع به أول مرة)، وأسباب أخرى تشمل الخسارة الاجتماعية، مثل فقدان علاقة قوية، والوصول إلى وسائل قاتلة، بما في ذلك الأسلحة النارية والمخدرات، وأن يكون الشخص ضحية للتحرش أو التنمر أو الإساءة الجسدية، ولا تتعجب، إذا قلت لك (والكلام للدكتورة رنا)، إن "هناك اسبابا اجتماعية وثقافية للانتحار منها الشعور بالانعزال، أو عدم القبول من الآخرين. يمكن أن تنتج مشاعر العزلة عن الميول الجنسية والمعتقدات الدينية والهوية الجنسية".
سأقتل نفسي
نحن نريد معالجة، فما النصائح التي يمكن أن نقدمها للاسرة العراقية، عمليا لتجنب وقوع الانتحار من أحد أفرادها، سأجيبك (والكلام للدكتورة رنا طالب)، كإنسانة محبة لوطني، ومن منطلق إنساني، أشدد على أسرنا مراقبة أولادها، فاذا شخصت واحدا من هذه الأعراض، فعليك اتخاذ الاحتياطات الواجبة، منها التحدث عن الانتحار كالإدلاء بتصريحات مثل سأقتل نفسي، أتمنى لو كنت ميتاً، أو أتمنى لو لم أكن قد ولدت، وكذلك الحصول على وسائل انتحار، مثل شراء سلاح، أو أدوية قاتلة إلى جانب الانسحاب من الاتصال الاجتماعي، والرغبة في الوحدة ووجود تقلبات مزاجية، كالشعور باليأس، وزيادة استخدام الكحول، أو المخدرات وتغيير الروتين الطبيعي، بما في ذلك أنماط الأكل أو النوم، فضلا على القيام بالأشياء الخطرة أو المدمرة للذات، مثل استخدام المخدرات أو القيادة بتهور كذلك توديع الناس بطريقة توحي بأنه لن يتم رؤيتهم مرة أخرى.
المخدرات والكحول
وأحذر الشباب (وهنا تقدم الدكتورة رنا نصيحة مهمة) من تعاطي الكحول والمخدرات، اذ يلعب الكحول أو المخدرات دوراً كبيرا في التفكير الانتحاري والانتحار، كما ان بعض الأدوية، قد تتسبب في مشاعر انتحارية، لذلك يجب إخبار الطبيب عن جميع الأدوية التي يتم تناولها من قبل المريض.
نريد علاجا نقنع به الناس، قلتها من قلبي، فواصلت الدكتورة حوارها لتجيب عن سؤالي، "يعتمد علاج الأفكار والسلوك الانتحاري على وضع المريض، بما في ذلك مستوى خطر الانتحار لديه والمشاكل الأساسية التي قد تسبب الأفكار الانتحارية أو السلوك الانتحاري، وتتمثل الطرق العلاجية فيما يلي: علاج حالات الانتحار الطارئة في حال الإقدام على الانتحار وإيذاء النفس يجب الاتصال برقم الطوارئ، وفي حال وجود أشخاص آخرين يجب طلب المساعدة منهم والاتصال بالطوارئ.
الرحمة الإلهية
وبما انني اردت أن أنصح الـ"آيسين من رحمة الله الواسعة"، وأبيِّن لهم المزيد من الحقائق التي تؤكد أنه حتى تمني الموت يرفضه الشرع الاسلامي واغلب الديانات في العالم، فتصدى لهذا الامر، الباحث الاسلامي المجدد والاستاذ في الحوزة العلمية الشيخ ماجد الجبوري، ليكشف لنا عن حقيقة مفادها، بأن الدين الإسلامي هو: منظومة معرفية متكاملة بكل ابعادها الفكرية العقائدية، أو العملية العبادية، أو السلوك الأخلاقي لا يشطّ اي حكم من أحكامها عباديا كان أو أخلاقيا أو عقائديا، عن هذه المنظومة المترابطة والمنسجمة مع تركيبة الخلق الإنسانية لإيصال الإنسان إلى ذروة الكمال والقرب من الله تعالى.
فعن طريق هذه المنظومة (كما يقول الشيخ ماجد) التي تحتوي على أصول علمية وعملية توجه الإنسان المسلم نحو الصراط المستقيم، ومن بين هذه الأصول اننا نعيش في الدنيا والآخرة تحت ظل رحمة المولى عز وجل، حيث قال تعالى (قال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون) سورة الحجر/ الآية 56، فهذه الآية الكريمة وغيرها من آيات الكتاب الكريم تبين سعة الرحمة الالهية بالناس جميعا، وأن لا ييأسوا من رحمته في اي لحظة من لحظات الحياة تحت كل الظروف، وفي أحلك المصاعب، فهذه الرحمة شاملة للجميع بلا استثناء على مستوى الحياة الدنيا، ففيها لا يفرق الله تعالى بين أحد من عباده مؤمن كان ام كافرا من الرحمة والعطاء الالهي في الدنيا حيث جاء في قوله تعالى (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّك. وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)
الإسراء/ ٢٠.
يضيف الشيخ، ان "الرقي قد بلغ مبلغا عظيما من الادب امام الخالق عز جل، فالشريعة الاسلامية تزجر عن تمني الموت مهما بلغ حجم الضرر الجسدي والنفسي الذي ينزل بالفرد المسلم، اذ قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (لا يتمنينّ أحدكم الموت لضُر أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)..