ياسين طه حافظ
كان عنوان المقالة اولا {الرضا بالبرابرة} ثم، وبعد أن اكملت الكتابة انتبهت لان أضيف إشارة، فتغيرت فقرات، وزادت المقالة صرامة، وكأن تقول "استقرَّ يا رجل على أمر، وضعْ نقطة واسترح.
المهم ظل الحديث عن روما. وظل الحديث عن غزوات البرابرة، وظل حال الافراد {اليتامى} امثالنا، الذين لا هم ملوك ولا قادة ولا هم اثرياء ولا محاربون. فأرى اني فعلت حسناً حين اغفلت {الرضا بالبرابرة}، وإلا فمن يرتضي البرابرة وأية ظروف سيئة وأزمنة سيئة تلزم إنساناً بالتخلي عن الكتب والمسارح والفنون والمثل وظلال ونعم الحضارة ليرتضي الجلافة والتوحش والشراسة وقلع رؤوس الناس بالفؤوس كما كان يفعل الغزاة البرابرة بمن يتصدى لهم من شباب روما او يحرقون بيته اذا استعصى.
المهم أنني اذا أردت الحديث عن المدن اتحدث عن روما. اتستر بها، اتعاطف مع ناس تاريخها، آسف وارثي أو ألوم. وهي تقدر الحال الذي انا فيه فتغض النظر، وكأن اتحدث عن مدينة سواها وعن حال غير احوالها. مشكلتي اني أريد الحديث عن الحضارة وما واجهته حتى صارت ثم تناثرت ابراجها وغادرت. افكر بهوس بمصائر اولئك الذين ترعرعوا ثقافة وعلماً وفناً ورقّت اذواقهم فرأوا الشناعات وهم المهذبون المرهفون الذين لم يروا شراسة ولا بؤساً وقطع رؤوس!
لكن ليظل الكلام عن روما فسرّ دمارها ظل لغزاً ولكي لا يحار القارئ، سآتي من التاريخ المدون بسطور عما شهدته روما او كيف دمّر البرابرة روما.
وان كنت، حينما قرأت التاريخ، وجدته للاسف غير معني بالضحايا،. وانه يتجاهل اسماء وحال وصفات اولئك الذين داستهم الخيول او جرفتهم الحرائق او طارت ارواحهم بين صرخات الموت وصرخات الانتصار ولا يعرف اصلاً اولئك الذين قتلهم الحزن مما رأوا او مما يرون. لأكن رجلاً "موضوعياً" كما يصفون، وانهي مقالتي بشيء مفيد، غير ما محصلته ذم الظرف السيئ والشكوى والتوجع مما نرى ونسمع، او نتوقع أن يصلنا، شر كذاك فنلتزم الصمت عنده... فخذوا شيئاً من تاريخ روما، ولكن لماذا أراه تاريخي الشخصي ما صلتي بناسٍ غابوا؟
خذوا كبرى احداث روما ودعوا ماون، سنة 391 قبل الميلاد، الحقت قبائل البدو الرحل الهزيمة بجيش روما بعدها في 410 جاء برابرة واعقبهم في 455 تخريب آخر من برابرة آخرين وحتى سنة 800 البرابرة على الحدود وروما محاصرة تدافع ولكن تدافع وتعيش وتتعلم وتعلم وتنشيئ حضارة - لكن جيشاً صغيراً من اشراف وارستقراطية روما، لم يقاوم غزوة الدمار الاخيرة، واغتيل الامبراطور وابنه في 476، وتحولت روما إلى مرعى. كان علماء، كان سادة وجهاء، كان اهل فن وكتابات، كان كان.. تحولت روما إلى مرعى!
لا ادري هل كان ذكاء من البرابرة، ام هو الجهل وعواقبه، ان احداً لا يعرف اسرارهم ولا كيف اتوا ولا ماذا ارادوا ولا عما كانوا يبحثون. فهم لم يتركوا سجلات ولا ما يدل من بعدهم عليهم .هم دمروا وغابوا. تاريخ موجز للدمار، وسيرة بعبارة لا تزيد عن: روما دمرها البرابرة. هو هوس قلت بإني احس تاريخ روما تاريخي انا الفرد المجهول في احد الاقاصي. ولذلك ، وكما في كابوس فزعت على اقتلاع باب، تركت كتبي ومصباح منضدتي، لأرى! " لماذا خرجت قلت لنفسي وانا رهين بيتي اخشى رؤية سوء أو أرى شناعة؟" كان واقفاً امامي بثياب لا اميز لونها قصيرة للنصف وقامة مرعبة ، وانا شاحب يرى مصيره عالقاً بذراع وفأس. كأني سمعت صوته الضخم: لا تبدو راضياً عنا؟" مرتجفاً تحت فأسه المرفوعة على الرأس اجيب كيف كيف وانتم اقتحمتم روما العظيمة وافرغتم الساحات فليس، ليس غير الرضا وانا خرجت لأرى."
هذا يذكرنا ان كل الحضارات دمرها البرابرة. وحتى حضارات المدن القديمة في بلاد بين النهرين ومصر والهند التي ظهرت تدريجياً بعد 300 قبل الميلاد ثم اكتساحها بعد 1700 على يد البرابرة من ركاب العربات الحربية الصغيرة والذين اكتسحوا روما التي كان يعرفها العالم اكبر المدن والتي كلما نهضت، احتشدَ على حدودها البرابرة وحتى جاءت القبائل الجديدة بأسلحتها الحديد وتنظيمات افواج مشاتها..
لكنها روما المترفة اليوم والمفتونة بالجمال والحياة، فما استطاعت تقاوم الجحافل الاتية من السهوب والبراري، اين البرابرة واين جند المدائن الصغيرة. هكذا ومنذ 500 ق ب. صار العالم القديم ملك البرابرة. ومنذ ذلك الزمن حتى زماننا يتخفى ناس من الموت، وهم وسلالاتهم يتوارون في الامصار..
جاء البرابرة ، فعلوا ما فعلوا وغابوا لم يتركوا سجلات لنعرفهم ولا آثار، وتساقط ناس قتلى وفرّ اخرون، لا يعرفهم احد. لا احد يعرف من قَتل او من قُتِل او أُحرق او مات حزنا.
سؤال: وهل يعرفنا يوماً، نحن امثالهم احد؟ ام الارض هكذا، وتظل تنتظر اخرين قتلةً وضحايا؟