امرأة سيدرا.. أسطورة السلطة

ثقافة 2024/06/10
...

  علي العقباني

اختتمت فعاليات المهرجان المسرحي الجامعي في دورته الثامنة والعشرين الذي أقامه الاتحاد الوطني لطلبة سورية وشارك فيه 12 عرضاً.
وكان عرض "ليليث" من اخراج هاشم غزال، والمأخوذ عن مسرحية "سيدرا" لمؤلفها الشاعر العراقي خزعل الماجدي، من المسرحيات التي تذكرنا بالكلاسيكيات المسرحية العالمية التي تحيلنا إلى أساطير وملاحم شكلت المعرفة الأولى للبشرية، وتناولت أحداثاً ذات دلالات واحالات معرفية مليئة بالشخصيات التراجيدية.
وبتلك الطقسية الاحتفالية المشبعة بالموسيقا والدلالات يبدأ هاشم غزال عرضه المسرحي في رحلته مع قصة "الطوفان" الأول والتي تروي المأساة التي تعرضت لها البشرية، بكل ما في القصة من غوص في تشعبات واحتمالات يسوقها العرض عبر موسيقى وأداء راقص وسينوغرافيا تعيد تشكيل الحكاية والسلطة والأخوة والمرأة والخلق والحياة والموت، وربما كما جاءت عند السومريين والبابليين عندما يتعلق الأمر بخلق الإنسان والصراعات العميقة في مدينة "شروباك" التي تدور فيها أحداث قصة الطوفان.
وهنا يستعير الماجدي في نص مسرحية "سيدرا" ومن ثم غزال في "ليليث" نقطة تحول هامة في تاريخ قديم محاولة لتقديم الحدث التاريخي الملهم في تاريخ البشرية حسب التقويم السومري البابلي الاشوري، الآكادي، لتدوين التاريخ الحديث، وابقاؤنا في جو مشحون من دون الذهاب نحو معادلة "الأسطوري-اليومي"  والإبقاء على حوارات "ليليث" امرأة سيدرا الأب وابنائه الثلاثة "هام، يافث، حام" بكل زخمها الأسطوري وبعدها التراجيدي العميق، ودلالات اللحظة الوجودية الفاصلة التي مر فيها الأب،  محاولا عبرها إعادة حكاية الطوفان ومصير البشر والصراعات على الملك والسلطة والاستئثار في هذا العصر الذي يكاد أن يُصاب بالعمى، مستلهماً إلى حد كبير روح الأساطير الأولى وتقاليد المسرح الشكسبيري العريقة.
يرسم غزال حدود عرضه مستعيناً بطقسية جماعية، وموسيقى ذات إحياء دلالي كبير، راسماً أبعاد الحركة والتشكيل بسينوغرافيا مكانية وبصرية تستفيد من معطيات المسرح التراجيدي العريق، لإعادة تشكيل الحكاية بما يليق فيها من الجلال والدلالة المعاصرة، "فسيدرا -ممداد حمودة" السيد والسلطة يشعر بلحظة وجودية فارقة بضعفه، وربما بخروج الأشياء عن سيطرته، فيلجأ لأولاده في محاولة تفسير حلمه الذي يقصه عليهم ويطلب من كل منهم أن يفسره، ووفقا لتفسيرات الثلاثة سيتم توزيع الأرض عليهم، وهنا سنجد "حام -علي الجهني" بعد مغازلته لأبيه، يطمح بإزالة العقاب عنه، لكي يرجع سويا وبالميراث. ولكن الأب يرفض ازالة العقاب عنه ويعطيه جنوب الأرض.. ويعطي الأبن الثاني "يافث - مصعب مزوق" اعالي الأرض.. أكبر الأقسام وأبردها، في حين أنه يقسو على ابنه "هام- الليث لايقة" عندما يخبره بحقيقة الأشياء وهو الذي أعتقد أن الطوفان قد خلص الأرض من الشر في ذلك الحوار المسرحي الآخاذ.
بعد كل تلك الأحداث والإحالات يغرق الأب في موجة من الحزن ويموت، وهنا سيظهر الوجه الحقيقي لامرأة سيدرا "ليليث - غربا مريشة" وغوايتها وسطوتها، وهي تتلاعب بالأبناء والأعمام وتردي بهم الواحد تلو الآخر، في حوارات سريعة وموحية وأداء لافت في الانتقالات والاستفادة من محتويات الديكور على الخشبة في تعليق كل شخصية في مكان ما برداء أبيض، أو الدوران والتخبط والركض على غير هدى، راسماً مصير كل شخصية وما حل بها في محاولة لقراءة روح الأسطورة وحال الإنسان على الأرض وما حل بها من فوضى وخراب وصراعات ذات طبيعة سلطوية، ذاك هو الفضاء الذي حاول فيه غزال صوغ عرضه المسرحي الذي منح فيه الممثلين مساحات للأداء والتعبير والحضور، والاستعانة بمجاميع بشرية لتشكيل حالات درامية على أساس جمالي وتشكيلي بصري لافت.