بوليسيّة وجاسوسيّة.. روايات لم تحظ باهتمام نقدي

ثقافة 2024/06/10
...

  أحمد الشطري

منذ النشأة الأولى وحتى وقتنا الحاضر، شهدت الرواية العديد من التغيرات سواء على مستوى تقنيات السرد أم على مستوى أسلوب المعالجة، متأثرة بسيل التيارات والمدارس الفكرية والفلسفية والأدبية، وقد رافق ظهور تلك التيارات صراعات ربما كان لها دور مهم في إثراء المنجز الإبداعي العالمي، سواء على مستوى الانتاج، أم على مستوى التنظير.
ولعل الصراع بين الرومانتيكيين والواقعيين مطلع القرن العشرين هو أوضح الأمثلة على ذلك، ثم ما تلاه بعد ذلك من ظهور لتيارات الدادائية والسريالية وما تبنتاه من أفكار حول علاقة الفن بالحياة، إلى تفتت الواقعية لواقعيات متعددة، إلى نظريات الحداثة وما بعدها- بغض النظر عن التسلسل الكرونولجي لظهورها- يرافق ذلك كله ظهور نماذج تجريبية تحاول أن تسهم في تعزيز قواعد المبنى النظري لتلك التيارات.
ولم تقتصر هذه الصراعات والتنظيرات والتجارب على الأدب الأجنبي فقط، بل كان من الطبيعي أن تؤثر في مسار الأدب العربي أيضا بكل تفرعاته، أو تلقي بظلالها عليه، وقد شهد المنتج الروائي العربي كثيرا من التغيرات بفعل تأثير النظريات الغربية، وإن كان غالبا ما يظهر بشكل متأخر عن إرهاصاته الأولى، أو بعد أن يستقر ويترسخ في التجارب التنظيرية والتطبيقية الغربية.
وغالبا ما كان التأثر - إن لم نقل التقليد- في كل أشكال الرواية واتجاهاتها ذا ملامح واضحة، بل ربما يسير على وفق نسقية مقولة "وقع الحافر على الحافر".
ثمة ملاحظة ملفتة في مسيرة نوع من الروايات تتمثل في تلك التي تنتج على وفق بناء تسلسلي أو مسار تخصصي - إن جاز لي الوصف- والمتمثلة بالروايات البوليسية والجاسوسية، فالملاحظ أن هذه الروايات – كما نعتقد- بقيت محافظة على أسلوبها وتقنياتها السردية في معظم أجزائها على أقل تقدير، ولعل هذا الثبات في الأسلوب والتقنيات ناتج عن نمطية مترسخة في ذات الكاتب لا تسمح له بالمغامرة في تجريب نمط أسلوبي وتقني جديد.
كانت الانطلاقة الأولى للرواية أو القصة البوليسية على يد الأمريكي "إدغار ألان بو"، والإنكليزي "تشارلز ديكنز".
ولعل ابرز سلسلة روايات بوليسية هي روايات الاسكتلندي "السير آرثر كونان" مخترع شخصية شارلوك هولمز، بينما كانت الانطلاقة الأولى لروايات الجاسوسية على يد البريطاني "سومرست موم" في روايته "أشندن" ثم "أيان فليمنغ" مخترع شخصية جيمس
بوند.
ورغم أن هذا النوع من الروايات قد حظي بجمهور واسع من القراءة، بالإضافة إلى ما تم تحويله من تلك الروايات إلى أفلام ومسلسلات تلفازية، حظيت هي الأخرى بجمهور كبير من المتابعين، وكثيرا ما تصدرت شباك التذاكر في دور السينما، بفضل ما تمتلكه من إثارة وتشويق، تجبر القراء والمشاهدين على حد سواء على الانجذاب لأحداثها، والبقاء مرغمين في أسر أسرارها الغامضة دون ملل أو ندم على ضياع
الوقت.
نقول رغم ذلك لم نشهد في مسيرة روايتنا العربية أي محاولات لتقليد أو مجاراة هذا النمط من الروايات على مستوى التخصص، وليس على مستوى التجارب الفردية، أي تلك التي تنحصر برواية واحدة أو بمجموعة من الروايات لا يجمعها رابط، بمعنى أننا لم نجد من حاول أن ينهج منهج أجاثا كريستي في تخصصها بالرواية البوليسية، أو الفرنسي  بيير أليكسيس بونسون دو ترايل مبتدع شخصية روكامبول، أو الإنكليزي أيان فلمنغ في ابتداعه لشخصية جيمس بوند، ورغم أن الكاتب المصري صالح مرسي صاحب رواية "رأفت الهجان" التي أنتجها قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري بثلاثة أجزاء، قد عمل على انتاج مجموعة من الروايات الجاسوسية التي دعت بعضهم أن يطلق عليه لقب "رائد الجاسوسية في الأدب العربي"، إلا أن رواياته والتي جاءت مصدرة بعبارة "من ملفات المخابرات المصرية" لم تتخذ نمطا تسلسليا كما في جيمس بوند أو روكامبول، بل كانت مبنية على حكايات مستقلة عن شخصيات متفرقة، وقد أتيح لمعظمها أو كلها الظهور على شكل أفلام أو مسلسلات، بل لعل معرفة الجمهور بها تمت في الغالب عن طريق السينما والتلفاز وليس عن طريق الكتاب، بينما كان الكتاب هو الوسيلة الأولى لتعرفنا على روايات أجاثا كريستي وسلسلة روايات روكامبول، وسلسلة روايات المحقق شارلوك هولمز، باستثناء سلسلة روايات جيمس بوند وبعض روايات الجاسوسية الحديثة التي تعرفنا عليها عن طريق الأفلام السينمائية.
ويبدو أن محاولة إيجاد سبب مقنع تتسم بالكثير من التعقيد، بيد أننا نرى أن هناك جانبين: أحدهما ذاتي يتعلق بشخصية الروائي الذي يمكن أن يتصدى لذلك، إذ يبدو أن هناك نظرة تقلل من شأن هكذا روايات تستند إلى الاعتقاد بأنها لا تحمل أفكارا كبرى وإنما هي روايات تسلية ليس إلا، والجانب الآخر يتعلق بالبنيات السياسية والاجتماعية للمجتمع العربي، إذ غالبا ما تنطوي هكذا مواضيع على محاذير تحد من رغبة الكتاب في الكتابة فيها باعتبار أن هذه الأجهزة تمثل أحد الأذرع السرية للسلطات، ومن ثم فإن إظهارها مظهر البطل هو في حقيقته تمجيد لتلك السلطات وليس للوطن أو للمدافعين عنه من أبنائه، وهذا مرجعه إلى أن تلك الأنظمة جعلت من حب الوطن والدفاع عنه مرهون بالولاء لها، كما أن ضبابية الموقف السياسي لتلك الأنظمة وعدم وضوح رؤيتها للعدو الذي يهدد مصالح وطنها وكيانه، ساهم في الحد من مساحة التخيل لدائرة الصراع، مضافا إلى ذلك عدم الثقة باهتمام وسائل الإنتاج السينمائي والتلفازي بتقديم هكذا
أعمال.
ولعل أبرز ما شجع محاولات بعض الروائيين المصريين على الكتابة في هذا النوع من الروايات هو أولا: وجود وسائل الانتاج السينمائي والتلفازي وتمتعها بنوع من الاستقلالية، وثانيا: وضوح الطرف المجابه المتمثل بالكيان الصهيوني مما ساهم في تعزيز أفق التخيل لخلق الأجواء الدرامية للصراع.
ومع ما تتمتع به هذه الروايات من رواج جماهيري إلا أنها لم تحظ باهتمام نقدي على المستويين العالمي والعربي يتناسب مع جماهيريتها الواسعة، وهذا - كما يبدو- هو واحد من أهم العوامل التي تعزز النظرة التي تجنح للتقليل من أهمية هذه
الروايات.