زهير الجبوري
يُعد فَّن الخزف من الفنون الدقيقة والحساسة جدا، لما يتمتع به من دقة الصنعة ومن المواد المستحضرة فيه كمادة الطين او اية مواد اخرى، "ويطلق على تسميته ايضاً فن الفخار"، وهو من الفنون اليديوية التي تجعل من الفنان يستحضر مواده الأولية من أجل صناعة أعمال تتناسب مع الذوق الجمالي العام، كذلك تدخل في صناعة هذا الفن "أنواع الأفران ودرجات الحرارة المناسبة" و"الاكسسوارات" و"آليات التشغيل الخاصة"، كلها يشتغل عليها الفنان بغية الوصول إلى أشكال جمالية بمواصفات منضبطة.
ولعل الفنان العراقي الدكتور تراث أمين واحد من أهم الفنانين العراقيين الذين قدموا منجزهم الأبداعي في هذا المجال، إذ له تقنية خاصة او بالأحرى اسلوب متفرد في جعل خزفياته واحدة من الاشكال التي تتداخل مع مفهوم "النص البَصَري" بطريقة تجريدية غاية الدقة، وهنا لا بد من الأشارة إلى أن "فن الخزف" عرف للوهلة الأولى بأنه ينتمي إلى "الفن الأستهلاكي" من الناحية الاقتصادية، مهما كانت اشتغالاته في الزمن القديم او الإسلامي أو ما بعده، الفنان تراث قلب المعادلة وجعل من هذا الفن فناً خالصاً بما يمتلكه من بواعث تجريدية في صناعة الشكل واختيار
الموضوعة.
ولأن فن الخزف يشمل "المواد اللاعضوية اللامعدنية والمتشكلة بفعل الحرارة"، فقد كانت للفنان اشتغالات متنوعة في ذلك، ولعل هذا الأمر جعل منه أكثر جرأة في تقديم النماذج التي اعطت الأشكال الملفتة للنظر من خلال استنهاض وحدات "شكلية/ تصويرية" انطوت على استرسال متوالي في أعمال مختلفة في الصياغة والتقنية، لأنه ـ أي الفنان - يدرك مدى تحول الذائقة لدى المتلقي المعاصر، فمع وجود تقنيات "الميديا" وظهور الأشياء ببراقة كبيرة، فإن الفن المجسم كفن الخزف لا بد ان يكون له مواكبة متناظرة مع الذائقة الآن، فـ "الألمام بكل ما هو جديد من تكنولوجيا واكتشافات وحركات فنية واتجاهات وفلسفات وتوصيات، بالتأكيد سيؤدي بالفنان ويساعده على اكتشافات مجالات جديدة": بحسب د.سمية
صالح.
التشكيلي العراقي الخزاف الدكتور تراث أمين، ورغم اختصاصه الدقيق والحساس في هذا الفن، إلا أن أعماله بدت تطرح العديد من الأسئلة التي أضافت جماليات أخرى لهذا الفن عبر تجسيدات تجريدية معبرة عن كسر ما هو مألوف، اسئلة جمالية في الاختيار والتنفيذ، وأيضا في نوع المواد التي جعلت من المتلقي في غاية الدهشة حين تكون الألوان البراقة والمضيئة حاضرة بشكل ملفت للنظر، فلم تكن "الأسماك، أو الطيور، أو الأجساد البشرية، أو غيرها"، سوى لعبة مهارية بتقنيات المواد العضوية المعول بها، ولو توقفنا قليلا في إنشائية الأعمال، نلمس مدى أهمية الموضوعات الانسانية والجمالية التي تمسك بها والتي تبعث عن معنى وجودي خالص، ومهما كانت هذه الأشكال متعالية جماليا "مجردة"، الاّ انها تقف بجانب الحس الإنساني ربما نشأة الفنان منذ طفولته ساهمت في خلق رؤيته الفنية الناضجة، فهو إبن الفنان القدير أمين عباس الذي يعد من أهم فناني البلد في التشكيل
العراقي.
ما يلفت النظر أيضا أن الفنان لم يخضع لهندسية معينة في أعماله بقدر ما كانت لديه تنوعات في التنفيذ، فالتفكير اللا محدود هو التفكير في خلق أكبر عدد من الأشكال الجديدة، وهنا يدخل الأداء التنفيذي البنائي مع الفكرة وما تنطوي عليه من أبعاد فلسفية، كما أشعر وانا اتمعن في أعماله أن هناك نقطة جدل واضحة، بمعنى هناك انفتاح وبُعد جمالي متوالد، والنظر إلى الخامة بلا شك يأخذنا إلى ورشة كبيرة من "الطين والأكاسيد والنار" وهذه الكيمائية هي إعلان عن خلق فني مرّ بمراحل وتحولات وتفاعلات انتجت الفكرة التي ارادها الفنان.
ككل، الفنان د.تراث أمين، فتح على نفسه نافذة جمالية خاصة في جعله متفردا في خلق الجدل الفني الخزفي متخطياً ما هو مألوف، وأنّ الخزف ليس مهنة تكوين جمالي اقتصادي بقدر ما هو فن البحث عن "استيطيقيا" في التكوين، وربما في قادم الأيام نشهد ما يطرحه في معارض خاصة أو معارض مشتركة، ولعلني أشهد أني واكبت تجربته لأكثر من عقدين، وقد يظهر لنا في تجارب تطرح أعمالا تأخذ على عاتقها البعد الفكري والجمالي معاً، فهو من الفنانين الذين يتمتعون بما هو افتراضي في الصياغة والتخطيط المضموني، لذا احسب أن لديه الكثير قادم من تجاربه.