حكايات الأنثروبولوجي الصيّاد

ثقافة 2024/06/12
...

د. يحيى حسين زامل


في سرد حكائي سابق قمت بكتابة ثلاث حكايات أو مشاهد، واحد في الأهوار العراقيَّة، والثاني في الغابة, والثالث في مقهی الفلاسفة، كوصف إثنوغرافي بأسلوب حكائي، وبابتكار شخصية “الأنثروبولوجي الصيّاد” الذي يبحث في المخبر أو المكان، عن الحياة والأفكار والرؤی. واليوم أكمل هذه المشاهد في منطقة أخری من مناطق العراق، وذلك بدفع من هاجس استذكاري يؤرخ جغرافيًا وثقافيًا لتلك الأماكن التي طالتها أرجل البشر.
الحكاية الرابعة
في حدود “برجيله” العظيمة، تلك القرية الرابضة على الحدود العراقية التركية، التي ساقتنا إليها الأقدار ونحن نرتدي ملابسنا الخاكية، في ثمانينيات القرن الماضي حين أنهينا دراستنا لتأدية خدمة العلم، حين كان لقوة الشباب حظوة وصفوة، لينطلق “الأنثروبولوجي الصيّاد” في تلك الغابات المحيطة بالقرية، وقمم الجبال التي يشقها نهر صغير يحمل بعض الأسماك الصغيرة، التي لم تنجُ من شره الجندي وهو يرميها بقنبلة رمانة، ليفرض عليها موتاً جماعياً يطول أصغر مخلوق في ذلك النهر الصغير.
في تلك القرية الحدودية وعلی سفحها تمتد عشرات البيوت، ومعها عشرات الأراضي المزروعة بأصناف الأشجار، فضلًا عن الأشجار الطبيعية في تلك المنطقة، ولكن في الجانب العراقي أُخليت القرية تمامًا من سكانها وأصبحت مجرد أطلال وبقايا من مزارع وغرف لم يبقَ منها إلا الآثار والأحجار. ولأننا جنود سكنا في أحد الكهوف الموجودة في تلك المنطقة تسمى “شكفته”. بينما سكن الضباط ومعهم بعض الجنود علی قمة الجبل المقابل للقرية.
في تلك الأنحاء يسير الزمن ببطء مخلفًا آلاف الأفكار السوداوية والمملة، الوقت يمضي محملًا بالكثير من الأماني والآمال فينا، لينتج خيبة أمل واضحة في سحنات وجوهنا المتعبة من العزلة في تلك القرية، التي تبعد أكثر من ساعتين عن طريق للسيارات، إذ تكون الوسيلة الوحيدة للنقل هي البغال صديقة الإنسان في تلك القمم العالية، والطرق الوعرة غير المؤنسنة، إنها قرية خارج الزمن نحسبها في بعض الأحيان في كوكب آخر، كأننا في عالم مئة عام من العزلة لغابريل ماركيز، حتی أنَّ بعض سكان تلك القرية الذين نصادفهم في بعض الأوقات لا نفهم لغتهم، والوسيلة الوحيدة بيننا هي لغة الإشارات، وكأننا رجعنا إلی بداية الحياة علی الأرض.
في تلك الأماكن المنقطعة لم يكن “الأنثروبولوجي الصيّاد” يُزجي الوقت إلا بقراءة القصص والروايات، حيث يختلي في كثير من الأحيان برفقة كتاب إلی قمة الجبل، كل شيء جميل من فوق الجبل، كل شيء واضح من فوق الجبل، يمنحك الجبل الرؤية والقوة والبصيرة لخرق آلاف من القمم العالية، والوديان العميقة والأنهار الصغيرة الفتية، وهي تشق طريقها بين الصخور والرمال الناعمة المترسبة عند حافتي الوادي.
وفي جانب النهر الأفعواني المنساب في تلك الأنحاء تربض الكثير من أشجار الجوز، آه كم هي عظيمة وعالية أشجار الجوز، إنها تحمل ثمار الجوز الخضراء اليانعة، التي تحتاج إلی قطف وجمع وتقشير وتعريض للشمس حتی يطيب أكلها وتناولها، لتحيل الأيدي والأصابع إلی لون أسود قاتم، إنه صبغ “الديرم” الذي تستعمله نساء المدينة في تلك السنوات لتنظيف الأسنان وتلوين الشفاه، إنها خيرات الطبيعة البكر، الطبيعة التي تعطي ولا تأخذ كمانح كريم لا يمل، لذلك يحلو للأنثروبولوجي الصيّاد في بعض الأحيان التسلق مثل قرد علی تلك الأشجار الخضراء ذات الأوراق اللامعة، وحين تصل إلی قمم تلك الأشجار يبدو العالم أصغر، ويُخيل إليك أنك تقبض علی العالم مثل تلك الجوزة في يدك، وعلی سفح الجبال أيضاً أشجار البلوط بكثرة لا توصف، حتی صنعت منها مسبحة كبيرة.
كُنا مجموعة مختلفة من الأصول والجذور والأذواق، لا تجمعنا إلا عراقيتنا، منهم: سيد ياسر من النجف (الثكَيل)، ونذير من سامراء أفلت من الإعدام بأعجوبة فأصيب بحالة نفسية، وحسين صديقي الوفي من ديالى صاحب الصوت الرخيم، والبير المشاكس مسيحي من بغداد، وعبد الوهاب كردي من بغداد، وحسين المتعصب تركماني، ومحمد من الحلة الذي يدّعي أنه يعرف الوقت من النجوم.. وغيرهم الكثير نسيتهم، إنها خيانة الذاكرة. ويحدث أحيانًا أنّ نذهب مع بعض الرفقاء إلی جانبي النهر الصغير حيث تنمو شجرة تفاح نأكل من ثمارها غير الطازجة الحامضة لسد جوعنا في ذلك المكان النائي حيث أرزاق الجيش لا تكفي، وعندما يتصاعد منسوب الحموضة في أفواهنا ننتقل إلی شجرة (تكي) حلوة المذاق ذات ثمار سوداء، لمعادلة تلك الحموضة المستشرية، إنها الطبيعة يا سادة تحب التوازن وتكره الفراغ.
وفي إحدی المرات عثرنا علی شجرة عنب حامض غير مكتمل النضج، ولأننا نعاني من إحساس بالجوع والتهام كل ما تجود به الطبيعة فقد قطعنا كميات منه حين عدنا إلی مكان سكننا، مما دعا “سيد ياسر” وهو رجل كبير في السن ويمتلك خبرة كبيرة، إلی عصره وإضافته إلی مرق وجبة ذلك اليوم فكان غاية في الطعم، وأحدث انتقالة كبيرة في ذائقتنا، وكأننا علی مائدة إنجليزية أو فرنسية فاخرة، فلا أدري ما أحدث عصير العنب هذا، لقد مضی سريعًا إلی خلايا الدماغ، وفتش في شرايينه عن مصادر الألم المتراكمة وأحالها إلی أنسام، وفكك مصادر الكدر إلی هدوء وسلام, فضلًا عن ذلك، يمكن للنهر أن يكون دليلًا أيضًا، فلا يكتفي بتزويدنا بماء الشرب، ومكانًا للاستحمام، ومصدرًا للأسماك في بعض الأحيان، فقد كان دليل كل واحد منا، حين يأتي بأرزاق اليوم حين يأتي عليه الدور، حينها سيتسلم البغل ويسوقه في الطريق الوعر المحاذي للنهر، كم هو عظيم هذا النهر، حين يرويك، ويزيل الأدران عنك، ويزوّدك بالطعام، ويهديك صوب وجهتك، أيّ عظمة هذه حين يمتزج الإنسان مع الطبيعة، فيتوحد معها بشكل كليّ لإنتاج نسق ثقافي متكامل. إنها سيرة الإنسان منذ بدء الحياة علی هذه الأرض، وقرية برجيله نموذج منها، شاهدناه وعشناه وشاركناه في أكثر من عام.
في قمة الجبل المقابل لحظيرتنا ارتكز ملجأ آمر الفصيل ملازم حسين، الذي زوده الجيش بمنظار يراقب طريق القرية وبيوتها، لمنع المتمردين الأكراد والقجقجية ، وعابري الحدود غير النظاميين، ولكن يبدو أنَّ موضوع المراقبة أخذ منحی آخر بعيداً عن المهنية، وأصبح ممارسة يومية ترفيهية لتزجية الوقت في تلك العزلة المملة، إنَّ مراقبة الناس في الحقول والمزارع وهم يعملون متعة كبيرة حيث يمارس الناس الأعمال بشكل طبيعي وفطري من دون حساب إنه تحت المراقبة، لذلك يتصرف علی طبيعته التي فطره الله عليها، وهذا هو المطلوب في المنهجية الأنثروبولوجية، حيث يتعايش الباحث مع الناس ليألفوا وجوده ويتصرفون بشكل طبيعي.
 كما أننا لتمضية الوقت أيضا كُنا نذهب إلی الوادي الذي خلفنا ونضع بعض الأهداف ثم نطلق عليها النار من بنادقنا، كإثبات لأنفسنا أننا مهرة وحاذقون في إصابة الهدف، وحتی عندما سمعنا نباح أحد الكلاب في طرف القرية عند منتصف الليل، نبّهنا أحد الرفقاء إلی أنَّ أحد الغرباء يقتحم منطقتنا، مما دعاني إلی إطلاق سيل من الرصاص باتجاه مصدر الصوت، حتی صرخ بنا آمر الفصيل: تريد تسويلنا حرب وي تركيا، فكانت تلك الليلة مختلفة بعض الشيء وخارج نطاق الملل.
 في النهاية لا يمكن وصف كل شيء في تلك القرية النائية، لأنَّ عاماً من العيش لا يمكن وصفه ببضع كلمات، فهناك أحداث وتفاصيل كثيرة تحتاج ربما إلى كتاب، وهناك أيضا أمكنة أخرى لها حكايات تؤرخ لحياة الإنسان وثقافته ومصيره، يمكن أن نتناولها في أيام مقبلة إن شاء الله تعالى.