مقرّرات هيجل الجدليَّة

ثقافة 2024/06/12
...

ميثم الخزرجي

هل ثمة خصومة معرفية لها منطلقاتها الدالة وبراهينها الكاشفة التي تنزع نحو الفكر الأحادي، لتضرب المباحث السابقة التي خرجت من لدن المشتغلين في هذا الحقل؟ وهل استقراء الخصومة، إن صحَّ تسميتها كذلك، مبني على نظام مفاهيمي معين لتتضح غايتها؟ هل نسق الفيلسوف وما يضمره من حراك فكري يدعو للتحريض والسعي للإطاحة بجميع الرؤى التي نوقشت قبله؟ هل الفلسفة قائمة على تفكيك السؤال المتقد، المسور به الجنس البشري بغض النظر عن اعتبارية السؤال إن كان غيبياً أو متمثلا بالوجود الحقيقي للإنسان، أو يعنى بطبيعة الحياة الدائرة، أو هي نظرية مأزومة مرتبطة بالأبعاد السيكولوجية والنفسية لدى متبني الطرح؟ هل التحقيق الفكري الذي يدّعيه الفيلسوف لا يقبل الدحض والبطلان، أو هو متوافقٌ مع مفهوم الجدل الاستقرائي الذي نشأ منذ طاليس مروراً بفلاسفة الإغريق وصولاً إلى يومنا هذا؟ ولعل هذا النقاش يستمر إلى حد فناء العالم ومحوه؟ هل الزعم المعرفي الذي يتخذه الفيلسوف ويدافع عن نظامه الابستمولوجي والقيمي زعمٌ راديكالي متطرف ناجم عن حقيقة ثابتة لا تقبل السجال، أو ثمة نسق فطري لدى الفيلسوف نفسه يدفعه إلى أن يتمسك بما يقول من رؤى فكرية وملخصات كاشفة عن طبيعة الأسئلة والاستفهامات التي جاهد في إظهار محتواها الإنساني والوجودي؟ هل المنظومة المعرفية تشتغل على ماهية الحك والشطب أو الاستحداث والمغايرة؟ تبعا لتعريفاتها الشائكة، لتفضي إلى نتائج غير ظنية، لكنها لا تندرج من ضمن اليقينيات، ذلك أن الفلسفة لا تعطي حقائق حتمية بيد أنها توقد الطرق للوصول إليها.
إن الجميل في نظريات المعرفة وما يتعلق بالمباحث التي تعنى بالديالكتيك، أنها في حراك دائم ومشتعل، مؤداه إعادة صياغة الردود تبعا لكم الأسئلة المنضوية في الذهن والحياة على وفق مذاهب ومدارس لها مقرراتها المتوالية على قراءات عدة، لتستكشف عن طريقها التطور الذي صاحب العقل البشري أولا، والتعاطي مع مجريات الواقع إمعانا للحالة التي يمر بها ذلك العقل ثانيا، وقد يتفق هذا التحليل الذي يكنه الفيلسوف مع مستجدات الحياة وأنساقها السوسيولوجية، بل حتى مع المؤثر السياسي والكهنوتي الراهن، لذا تجد أن انعكاس الواقع بجميع مآلاته الإنسانية وسياقاته العامة يظهر ملامحه عبر المجهر التنويري.
 واقعاً، أجد أن دلالة التقاطعات المعرفية التي حظي بها التاريخ الفلسفي، جاءت نتيجة لمحركٍ بحثي يخلص له الفيلسوف، ويبشّر برؤاه، ويتزعم نشاطه، وقد يتراجع أو يصرّ على طرحه في قادم الأيام بسبب إعادة صياغة استطلاعاته الجدلية حيال الدائرة التأملية التي ينعم بها، والأدلة كثيرة على ذلك، بيد أن تواشج الآصرة المعرفية والقيمية التي تسعى إلى أن تجهد نفسها للوصول إلى حقيقة الوجود، يتعافى عن طريق هذا الجدل المتصاعد واللامتناهي، على الرغم من ذلك تجد أن ثمة تطرفا عظيما في الطروحات التي يتبناها بعض الفلاسفة، والتناحر الذي حصل عند المذاهب والمدارس الفلسفية خير دليل على ذلك، كما حصل مع هراقليطس وبارمنيدس حول إدراك حقيقة الوجود على أنها متغيرة أو ثابتة، أو بين الأستاذ وتلميذه مثل سقراط وأفلاطون، أو مثل المدرسة العقلانية المتمثلة بــ (ديكارت وكانط) والتجريبية بروادها الثلاثة (لوك, بركلي, هيوم)، كذلك الحال عند النزعة الموتورة لدى نيتشه التي صفعت الكثير من متبنيات الفلاسفة وأوكلت اعتبارات قيمية للإنسان حال تمثله بالرجل الفوقي أو السوبر مان.
 واقعا، أن الصراع المعرفي الدائر بقي متوهجاً على أشدّه، إلى أن جاء (هيجل) ليصرّح في كتابه (فنومينولوجيا الروح) أو الظاهريات، أنه لا مطلق أو متناهي في الحراك الفكري، لذا من المفترض إعادة تقييم الطروحات المعرفية على الدوام، وإن ظهرنا بنتائج معينة فعلينا أن نقيّم هذه النتائج أيضا، وهكذا دواليك، فالذي أشار به تحديدا، هو عدم بقاء الذهنية المعرفية راكدة عند طرح معين، وما هذا التباين بين الفلاسفة سوى تطور اعتيادي كحال النمو البيولوجي الذي يحدث عند الإنسان، فقد تأثر هيجل بمفاهيم التقدم للعلوم الطبيعية التي تعنى بدراسة الحياة والبيئة وتفاعلها مع الكائنات الحية، بوصفها بنية ذات ترتيب هرمي كونها تمثل وحدة عضوية، وكل جزء من هذه الوحدة معتمد على الآخر كما عند الإنسان، فالأعضاء الفسلجية متمثلة بوظائف متصلة مع حليفتها من الأعضاء الأخرى، لتؤدي مهمة معينة فتكون المسألة تكاملية.
 أراد هيجل في هذا الرأي التأكيد على أن دور المعرفة متصل ببعضه، وما هذا التناحر سوى عملية خلق وتهيئة لمباحث ديالكتيكية جديدة. هيجل الذي آمن أن الكائن البشري كوحدة متطورة فاعلة للأجزاء ذات النمو الهرمي، والتي يعتمد كل منها على الآخر لتعضيد الدور الفعلي له،  يبيّن في ما بعد، أن فهم الفلسفة بوصفها نظرية معرفة، ناجم عن الأصل التاريخي التابع لها، كونه وأعني الأصل، جزءاً فاعلاً من تكوينها العلمي وحراكها المستمر ومدى تقدم مادتها، ليكون تطورها على وفق معيار الزمن وما يدخره من مستحدثات فكرية، لذا كان ينوّه، بأن أي جديد في المدونة المعرفية للفيلسوف لا يمثل تصادما بقدر ما يعتبر خلاصة التجربة التي استحصل عليها على مدى سنين عديدة، فما كان يميز هيجل عن غيره من الفلاسفة العقلانيين أو التجريبين، هو أنه لا وجود لصاحب الطرح الواحد والمتفرد، وبحسب وجهة نظره عن ماهية الفلسفة، فإنها عبارة عن مرجعية تاريخية بجميع تقلباتها الإنسانية والنفسية وصراعاتها الفكرية، لتمتد وتتعافى في ما بعد إمعانا للتقدم والاستمرارية، لذا يكون زهوها وانتعاش مشغلها عن طريق مراحلها التاريخية، وقد أثار هيجل نقطة مهمة في تعيين واستقراء المنظور المعرفي ومستوى نضوجه إزاء الزمن، فقد أوكل اهتماما لعجلة التاريخ السائرة بوصفها السمة المهمة للنمو الابستمولوجي، مع الأخذ بعين الاعتبار التغير الكمي والنوعي الذي يطرأ على جميع المتبنيات.
 يعوّل هيجل كثيراً على تاريخ الوعي الإنساني، باعتباره الأداة الفاعلة للديمومة، كونه يمر بمستويات من النضج، وهنا تتضح وظيفة الفلسفة ومهمتها الفعلية التي تؤلف بين المواقف الإنسانية والدينية والمعتقدات الإثنية، مشكّلة عن طريقها منظومة معرفية دالة عن طريق الجدل لتفضي إلى الحقيقة، على الرغم من كون الحقيقة التي يدعيها ليست حتمية، ولعلها تحتاج إلى قراءة أخرى، وهنا تظهر فلسفة هيجل التي تسعى إلى خلخلة المطلق وعدم التسليم به.