كيف كان يُنظر إلى المعاق عبر التاريخ ؟

ثقافة 2024/06/12
...

مورقان جولان

ترجمة: رضا الأبيض

غالباً ما كان تمثيلُ ذوي الإعاقة زاويةً معتمة في دراسة التاريخ. لقد تمّ استبعادُهم بل اضطهادهم في كثير من الأحيان. وعرفت مكانتُهم في المجتمع وكذلك الطريقةُ التي ينظر إليهم من خلالها تذبذبًا كبيراً، ما يزال قائماً إلى اليوم.

في اليونان وروما ومصر القديمة
خلال العصور القديمة، كان تصوُّر الإغريقِ والرومان للإعاقة يختلف بالنظر إلى شكْلها وسببها. كان يُنظر إلى المولود المعاق على أنه تعبير عن غضبِ الإله على الأسرة. ولكنْ من ناحيةٍ أخرى، كان يمكن للمحاربِ المصابِ بإعاقةٍ أن يَطْلُبَ له مكانةً في المدينة، لأنَّ لإعاقتِه ما يبرّرُها. ومع ذلك، كان يتمُّ إبعادُ المحاربِ المصابِ بإعاقةٍ عن أماكن العبادة، لأنّ الثقافات القديمة، كانت ترى العيْب الجسديَّ تجسيدا لانحطاطٍ وضعفٍ لا يتوافق مع فكرة الكمالِ الإلهيِّ. وقد جاء في سفْر اللاويين أنه “لا ينبغي لأحد إذا كان به مرضٌ أن يُقدّم طعامًا لله”.
وفي اليونان كان بعضُ الرضع ذوي الإعاقة يُتركون عند ولادتهم خارج المدينة، وفقًا لطقوس التخلّي rite de l’exposition . رغم ذلك، رُسم أشخاصٌ من ذوي الإعاقة في السكايفوس skyphos ( نوع من أوعية الشّراب) ، مما يدلّ على أنهم كانوا يمثلّون جزءًا من الحياة الجماعية.
وفي روما، تمَّ التخلي عن الأشخاص المعاقين، بشكل عام، واستبعادُهم من المجتمع. لقد كان لربّ الأسرة (الأب، أو المسؤول عنها) في بداية عصر الإمبراطورية الرومانية، بموجب القانون، الحقُّ في تقرير مصير أطفاله. ولذلك، كثيراً ما كان يتمّ إعدامُ الأطفالِ ذوي الإعاقة أو بيعهم كعبيد.
أمّا في مصر القديمة، فقد كان يُنظر إلى الجسد المعاق على أنه عملٌ إلهي ناقص، وأنه سيكتمل في الحياة الآخرة. لقد تمت ملاحظة ذلك في الحياة اليومية، وفي الفنون، وفي قصص الآلهة. فحورس Horus كان فاقدا لعينه، وكان كلٌّ من بيس Bès وبتاح باتيك Ptah-Patèque آلهة أقزاما. وكانت لذوي الإعاقة حقوقٌ، من ذلك مثلا الإعفاءُ من الضريبة على العمل بالاعتماد على فحص طبي (epikrisis).

العصور الوسطى وظهور مفهوم المحبة المسيحية
مع ظهور المسيحية في القرن الأوّل قبل الميلاد، تغيّرتْ الطريقةُ التي يُنظر بها إلى الأشخاص ذوي الإعاقة بشكْل عميق. يقول جيلداس بريجين Gildas Brégain الباحثُ في “المركز الوطني للأبحاث العلمية” CNRS ومؤرّخ الإعاقة: “لقد عزّزت الكنيسةُ التصوّر الرحيم عن الأشخاص ذوي الإعاقة، وساهمتْ في إضفاءِ الشّرعية عليهم كأشخاصٍ غير نشطين، يحتاجون إلى الإحسان ولا يمكنهم أن يعتمدوا على أنفسهم.”
رغم ذلك، كانت صورة الإعاقة في العصور الوسطى معقّدةً للغاية حيث كانت مزيجا من الخوف والسّخرية. ولكن خلال هذه الفترة أيضًا ظهرتْ أولى أعمال التضامن. وكان انتشار شخصية مزّاح (مهرّج) المحكمة bouffon de la cour مثالاً على ذلك. وهو الذي وإنْ كان يتعرّض للسخرية، غالبا، بسبب صغر حجمه، فإنه، من ناحية أخرى، كان يتمتّعُ بحرية كبيرة في التعبير، وكان أحد الأشخاص القلائل الذين يمكنهم أن يعارضوا المحكمة.
وفي هذه الفترة أيضًا افتتح رجالُ الدّين أول فنادق “ نزل الربّ” Hôtel-Dieu التي تستقبل الأيتامَ والمعوزين والحجّاج. وأضفي فيها الطابعُ المؤسّسي على الأعمال الخيرية، وتمَّ تشجيعُ الأشخاص ذوي الإعاقة على تبني أسلوبٍ في الحياة أكثر استقرارًا. لقد كان هدف السلطة الملكيّة التحقّق ممن ترى أنَّ لهم فعلا الحقَّ في المساعدة.
وفي 27 أبريل 1656، وقّع لويس الرابع عشر مرسومًا ينص على ما يلي: “نأمر بحبس المتسولين الفقراء، القادرين والمعاقين، من الجنسين، في أحد المستشفيات لتشغيلهم في الصنائع والمصانع وغيرها من الأعمال، حسب استطاعتهم.” وأمر، على الفور، ببناء مستشفى سالبيترير Salpêtrière المخصّص لحبس المتسولين (كذا).
عصر التنوير
حمل عصر التنوير معه تيارًا فكريًا جديدًا يدعو إلى العقل والعلْم واحترام الإنسان. وقد سعى الدكتور فيليب بينيل Philippe Pinel على وجه الخصوص إلى تحسين الظروف المعيشيّة للأفراد الذين يعانون الأمراض العقليّة من خلال إبداع مقاربةٍ جديدة في الطب النفسي والعلاجات الرحيمة.
لقد تمّ التعرّفُ على الإعاقة بشكل أفضل، ووجدت لها مكانًا في عالم الفنِّ والآداب. من ذلك مثلا رسالة ديدرو Diderot حول المكفوفين الذين هم في خدمة المبصرين. وفي هذه الفترة نفسِها، أقام شارل دي لابي Ch. de l’Epée (ت 1789) مدرسةً للصمّ والبكم وطوّر رموزا منظمة لتسهيل تواصلهم.
منذ القرن التاسع عشر
في القرن التاسع عشر، كان ذوو الإعاقة يعيشون بشكْل رئيس “في المناطق الريفية، وفي مجتمعاتهم المحلية”، مثلما يقول جيلداس بريجين ، مشددا على أنه “على عكس ما قد يعتقد المرءُ، فقد كان للكثير منهم نشاطٌ مهني”، وإن لم يكن في كثير من الأحيان “مجزيًا للغاية”. ويضيفُ: لقد كانت حياتُهم اليومية “تختلف كثيرا حسب نوع الإعاقة وطبيعة الشّخص وانتمائه الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، لم تكن المرأةُ النبيلة العمياء تخضع لنفس القواعد الاجتماعية التي كانت تخضع لها المرأة العمياء التي تعيش في بيئة فلاحيّة أو حضرية.”
وتطوّر دَوْرُ الكنيسةِ خلال هذه الفترة. و”كانت هناك جمعياتٌ، مثل جمعية “الأخوة الكاثوليكية للمرضى والمعاقين” FCPMH ، التي ظهرت في أربعينياتِ القرن الماضي، وعزّزت تحرير الأشخاص ذوي الإعاقة من وصاية الأصحّاء داخل الكنيسة”.
ويشير الباحثُ إلى أنَّ العجزة والمكفوفين، الذين رفضت الكنيسةُ وصولهم إلى منصب الكاهن، لم يتمكّنوا من الالتحاق بمدارس التعليم الديني إلا منذ الثمانينيات، وهو ما يؤكّد وجود “تباين وفقًا لمقاييس التحليل الوطنية أو المحلية على سبيل المثال”. ويشير الباحثُ إلى وجود “جهاتٍ فاعلة دفعت النّقاشَ في الكنيسة وشككت، تدريجيا، في مفهوم المحبّة. لقد كان البعض يرى أنَّ هذا المفهوم لا يمكن أن يتوافق مع الدفاع عن حقوق ذوي الإعاقة، في حين اعتبر ممثّلون كاثوليكيون آخرون أنَّ فكرة الرحمة والإحسان تتوافق مع الدفاع عن حقوقهم”.
ومع بداية القرْن العشرين، وبعد الحربين العالميتيْن، ظهرت شخصيةُ معاق الحرْب، التي تمّ التعاملُ معها بشكل مختلفٍ ومنفصل عن صورة الإعاقة. إذ “يمكن لمعاقي الحرب أن يستفيدوا من أنهم دافعوا عن الأمّة، وبالتالي لا يُنظر إلى إعاقاتهم على نحو سلبيٍّ مثل العاهات الخلقية، أو تلك الناجمة عن حوادث مهنية أو في الحياة اليومية.” ومع ذلك فإنّ دمج ذوي الإعاقةِ لم يكن واحدا في كلّ مكان.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، روّج بعض أنصار أيديولوجية تحسين النسل لـ”صورة الأشخاص ذوي الإعاقة باعتبارهم عبئًا على المجتمع”، كما يوضح جيلداس بريجين. وبلغتْ هذه الظاهرة ذروتَها، دون شك، في عملية “أكتيون ت14” ( Aktion T4 ) التي ارتكبها النظامُ النازي في الفترة من سنة 1939 إلى سنة 1941، والتي كانت عبارة عن حملة إبادةٍ عن طريق اغتيال بالغِين ألمان أو نمساويين يعانون من إعاقات جسدية أو عقلية، خلّفت أكثر من 70 ألف قتيل.
وفي فرنسا، يعود تاريخ أوّل إجراء تشريعي رئيس بشأن الإعاقة إلى سنة 1975. تمثّل ذلك في القانون التوجيهي لفائدة الأشخاص ذوي الإعاقة (ع 75- 534 ) . وتمّ التشديد على أهمية الوقاية من الإعاقة وفحصها، وضرورة تعليم الشباب ذوي الإعاقة، وحقّ الاندماج في المؤسسات العامة، والحفاظ على بيئة عمل ومعيشة عادية في كلِّ مرحلة من مراحل الحياة. وفي ما يتعلق بالعمل، “حدث تغيير كبيرٌ في الخمسينيات، حيث شهدنا انتشار وتسارعَ أنظمة العمل المحميّة، وبالتالي وجود قطاعات عمل منفصلة،  كان لها في البداية هدفٌ وقائي، وهو منع إخضاع هذه الفئة إلى نسق مكثّف في الإنتاج الصناعي، في مقابل أجر زهيد”.
لكنَّ حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لم تؤخذ بعين الاعتبار فعليّا في التشريعات إلاّ في نهاية الثمانينات، مع القانون ع 10 يوليو- جويلية 1987 على وجه التحديد، الذي يُلزم الشركات التي يزيد عدد موظفيها على 20 موظفاً بتعيين ما لا يقل عن 6 % من العمال من ذوي الإعاقات. وهو ما يسمى: الالتزام بتوظيف العمال ذوي الإعاقة (OETH).
واليوم، يعتقد غيلداس بريغان Gildas Brégain أنَّ في فرنسا تصوّريْن مهيمنيْن حول الأشخاص ذوي الإعاقة في وسائل الإعلام. من ناحية، “التصوّرات والتمثّلات الرحيمة”، والتي يُعتبر التيليتون Telethon مثالًا دالا عليها، ومن ناحية أخرى، “تصوّراتٌ تركّز على بطولة ذوي الإعاقة.” ويوضح أنَّ “الصور والتمثيلات الإعلامية ليست كاريكاتورية كما نعتقد، حتى وإن لاحظنا وجود تمثيلات مهيمنة، رحيمة أو درامية أو بطولية، لا تعبّر فعْلا عن تنوّع التجارب الحياتية للأشخاص المعنيين”.
وفي النهاية، يخلص بريجين، مؤرّخ الإعاقة، إلى أنَّ التمثيلات والمواقف “لا تتطور بطريقة خطّية. إذ قد يعتقد المرءُ أنه منذ اللحظة التي ظهرت فيها، في القرن التاسع عشر، صورة الأشخاص ذوي الإعاقة على أنهم ذوو كفاءة مهنية، مع جمعيات المكفوفين والصم التي روّجت لهذه الصورة، فإننا لنْ نتقدم إلا نحو هذه الفكرة، لكنْ ما حدث فعْلا ليس هذا، وذلك بسبب وجود جهاتٍ اجتماعية فاعلة أخرى يمكنها الترويجُ وتعزيز صور وتمثيلات متباينة.

------------------------------------
MORGANE JOULIN
Quel regard a-t-on porté sur les personnes en situation de handicap au cours de l’Histoire ?
https://www.nationalgeographic.fr/histoire/culture-generale-quel-regard-fut-porte-sur-les-personnes-en-situation-de-handicap-au-cours-histoire-politique-inclusion-exclusion