جمال العتابي
تناول الفنان التشكيلي طاهر ظاهر حبيب في "مخلوقات الساحل الأزرق" معرضه الشخصي الأخير بقاعة جمعية التشكيليين في البصرة الماء والكائنات الفنطازية، وهما مادة الحياة لفنان عمد الى البحث عن مفاجآت بصرية في 28 عمل فني منفّذ بألوان الاكريلك وأقلام الباستيل وبمواد لاصقة للكولاج.
لقد أدرك حبيب بفضل خبرته الفنية أهمية الفضاء والضوء، ولشغفه باللون، استخدمه لإثارة الأرواح أو استدعائها أو في تطهيرها، أو كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها تستطيع أن تجعل من هذه المخلوقات متجانسة ترقص في مكانها، انصاف وجوه، انصاف عجلات، طيور وأقنعة، أفخاذ وسيقان مكتنزة لنساء بلا وجوه، أسماك تتطاير في السماء، قوارب مبحرة نحو المجهول، كائنات فضائية مثل لعب للأطفال.
وبرغم ان الفنان حرر كثيراً من مخلوقاته الغريبة الغامضة من محابسها في أعماق اللاوعي، إلا انه ظل يراقب نموها بين يديه، ولكن المهمة كانت أعصى على الفهم من أي شيء آخر يقع في دائرة الوعي، أنه يعمل بانفعال، كما لو كان حبيس ارادة غامضة تقوده بخيط الى عالمه الخيالي:
أشخاص وهميون، رؤوس تنظر بعين واحدة مفتوحة الى المجهول، بائسة حزينة، لاتنطق ولا تبثّ أساها، لا تبحث عن شيء ذاهب، ولا تسأل عن شيء آت، لأنها تشبه أن تكون رموزاً لمصائر إنسانية ترقب ساعة الخلاص، وإذا آن لنا أن ننتقل في النظر إلى "إنسان" أعماله الفنية، تكشفت لنا ظواهر وإشارات تنبئ عن حالات من التوتر والاحتدام، فاختفت الاجساد اللينة، والانحناءات ذات الطاقات الايحائية، وحلّت بديلها الخراطيش البلاستيكية، والمناقير المعدنية، وبين هذه وتلك عاشت شخوصه سابحة في أجواء عالمها الخاص، وهي تمارس حيواتها بشكل طليق.
هنا يعيد طاهر حبيب عمليات "الخلق" إلى فجرها الأول، ويؤلف منها عالماً منزوعاً من إرث قديم هو إرث الانسان الذي ضاعت حلقته المفقودة في غمار عمليات الخلق الجديدة فلم تعد تبين.
إنه وعي خارج حدود الزمن يتشكل منفصلاً عن قطبي الحياة ويمارس وجوده المخصب في يقظة الغرائز التي تصبح قابلة للارتداد في صدفة اللاشعور إذا ما عولجت بقسوة تزيد على الحد المعقول.
إن قوة غير نظامية هائجة ومثيرة للانفعال قد تبدو هي المحرك الخفي لهذه الأعمال، وهكذا تبدو أبسط الرموز إيماءً وأدناها إلى الافصاح عن جمالية تلك المنظومة من الأفلاك الغريبة، هو الرمز الذي تشترك فيه مظاهر عالم مركب من نقيضين.
يحرص حبيب على أن تكون له فلسفته الخاصة في حياته وفنه، وكأنه تمثّل أفكار الفلاسفة الفنانين مثل وليم بليك وراسكين، لأن أفكارهم تتجه نحو التغيير الطوبائي، وتشن الحرب ضد التآكل النفسي للعصر.
إن الوظائف السريالية لأعماله الفنية محسوبة المسافة بين الماء والساحل، بين الفن الخالص والوظيفة التطبيقية. لقد أراد الفنان أن يحقق التوحد ما بين القوة والخفة الأثيرية للمادة، وعندما عاش في أحضان البحر أصبحت أعماله صدى للبث الروحي الشفاف الذي تمتلكه المياه، وغدت الألوان أكثر حدة وقوة، أن أكثر الأعمال التي تستحوذ عليه في تقديري، تلك التي تملك سريالية بصرية، إنها الرؤية البديلة لعالم القيم الاستهلاكية.
مخلوقات حبيب أو أشباحه تحيا حياتها الداخلية بشكل يناقض مظهرها الخارجي، وهي لذلك، لا توهب قوتها الذاتية بمجرد تشكلها النهائي، لأنها جنين خيالي يتحرك في عالم يقع بين حقيقة الشعور بالشيء وصفة وجوده المدرك.
الفنان يخلع عليها صفات غامضة قد تكون منصبّة على نحو تماثلي مع أشكالها البهيجة، أو متلاشية فيها، أو يتحول إلى شيء مطلق يتخذ معناه الخاص من موقعه إزاء الزمان والمكان.
ومادام "الخيال" هو الغاية النهائية للرسام، فمن البديهي أن يجنح الى البحث عن صيغة للتعبير تدرك بالحدس، ولا يجلوها بالعقل، وما دام ذلك الخيال يمتلك جمالياته الخاصة التي تولد معه، فانه لدى طاهر حبيب، إنما يؤدّى بشكل لا يثلم عفويته وبراءته.
هنا يتدفق الفعل الحر ولاشيء يحول دون ضمور القصد المعنوي للحياة بكل مقاصدها، وبذلك يصبح الفن وسيطاً بين عالمين يتحول ازاءهما الوعي الانساني من ماء وسواحل الى قطعة فنية تصنعها يد الإنسان الفنان.