أثر تزييف الشاعر لحياته؟

ثقافة 2024/06/13
...

  صلاح حسن السيلاوي 

عوالمُ كثيرة ومتنوعة، تلك التي تفرشها قصائد الشعراء في فضاء واسع من اللغة، بما تحمله من خيال واستعارات ومجاز، عوالم يقف القارئ كثيراً أمام شعرائها بحيرة أو دهشة أو تصديق أو تكذيب.

عوالم يشيدها الشعراء عن ذواتهم بحديد اللغة وبارودها، وأنهارها وخضرتها، يقف القارئ أمام تلك البساتين المترامية المعاني والِسيَر التي يضعها بعض الشعراء عن أنفسهم في النصوص، فيرى بعضَهم ملوكاً بنفوس يلمع فيها الذهب، ولا يتوافق ذلك مع سيرهم الحقيقة، فيما يجد في قصائد أخرى سيراً لانكساراتٍ عظمى، لنفوسٍ نبوية لا تتوافق هي الأخرى مع مضامين وقيم حياتهم السلبية المعاشة، وفي الوقت ذاته يكتشف هنا أو هناك توافقا، بين ما يقوله بعض الشعراء عن ذواتهم المنكسرة أو المنتصرة، بعضهم يقدم صوراً مغلوطة عن الواقع السياسي الذي يعيشه، وبعضهم يخادع علنا فيما يكتب. 

قد نكون نحن هنا أمام خديعة ثقافية كبرى، في مجتمع يعد الشعر زاداً يومياً، لا يكاد الإنسان العراقي فيه أن يفارق هذا الزاد منذ الولادة حتى الموت. 

إنها خديعة قد تؤدي بنا إلى صناعة تاريخ مفارق لحقائق كثيرة، حيوات مختلفة، وأخرى مزورة.   

عن كل هذا تساءلت بحضرة نخبة متميزة من مثقفينا: ما رأيك بما يكتبه الشعراء من سيرهم الذاتية؟

هل يكتبون أنفسهم ويصفون ذواتهم بطريقة تلائم الحقيقة، أم أنهم يرسمون عوالم مغايرة عن  حيواتهم؟

هل لمستَ تجارب شعرية تمثل وقائع مهمة عن سير الحياة؟

أيمكن أن نجد  بين تلك التجارب العراقية والعربية من كتب انكسارات ذاته وانتصاراتها وعقباتها وارتحالاتها بين الماضي والحاضر بصدق؟

هل ميّزتْ بعضُ التجارب الفرقَ بين المفهوم الفني لجملة (أعذب الشعر أكذبه) وبين الصدق في تجربة الشاعر معبراً عن حياته الخاصة؟

ماذا عن بعض التجارب التي رسمت أحلامَ منتفخة عن ذواتها؟

واتخذت من الشعر سبيلاً لصناعة صور مغايرة عما هي عليه في الواقع؟

ما الأثر الذي يتركه تزييف الشاعر لحياته على المجتمع برأيك؟ 


حيواتٌ أخرى

الشاعر إسماعيل الصياح، يرى أن الشعراء يحاولون أن يرسموا صورا مغايرة ويقتبسون من حيوات أخرى تعجبهم، أو أنها كانت المثل الأعلى لهم، مشيراً إلى أن هنالك ما يندر عن ذلك، ولفت الصياح إلى أن تلك السير لا يمكن أن تكون مطابقة للواقع لأنها سير مفلترة بشكل أو آخر.

وأضاف موضحا: لجأ بعض الشعراء إلى تدوين سيرهم الذاتية بأنفسهم سردا كالبياتي وقباني وصلاح عبد الصبور، ولكن هل دونوا الحقائق من حيواتهم أم المتخيل منها؟ 

على عكس الروائيين التي كانت سيرهم اكثر جلاء مثل الخبز الحافي وغصن مطعم بشجرة غريبة وهكذا رأيت رام الله وغيرها الكثير، ربما في الشعر رأينا التحولات في شعر سعدي يوسف التي تعكس تحولاته الحياتية وأفكاره.

الصدق بعيد عن الشعراء غالبا لكن، نعم قرأنا في شعر السياب والنواب وغيرهما الكثير من موضوعات تناولوها بصدق.

ليس دائما أعذب الشعر أكذبه، فهناك تجارب صادقة كانت اجمل بكثير من غيرها.

هناك الكثير من الذي زوروا سيرهم وأظهروها منتفخة، وما ذلك إلا لسد نقص في تجاربهم الشخصية، محاولين ردمه بالتزييف وعمر الكذب قصير، ومن هنا فإن فاعلية هكذا شعراء اقل بكثير من غيرهم، ولنتفق مبدئيا أن الشعراء أقل تاثيرا وفاعلية من المفكرين والفلاسفة. 

أما عن الاثار التي يتركها المزيفون فإنها ستزيد من التردي على المستوى الحياتي لا الشعري طبعا، وسيخلق فجوة عميقة بين الواقع والمتخيل وهو أمر فاسد حياتيا لا شعريا.


التفاصيل الشخصيَّة مشروعٌ شعري 

الناقد زهير الجبوري، يجد أن كتابة الشاعر عن سيرته تنطلق من رغبته في كتابة الشعر، وما يحمله من اندفاع لتكريس ذاته وموهبته، ويعتقد أن ذات كل شاعر هائمة في المعاني التي يلتقطها وهي في الوقت ذاته تعبر عن نرجسيته المعلنة والخفية، مشيرا إلى أن وصف الذات هو استجابة لصناعة مشهد مثير للانتباه تجاه الآخر ومن خلاله يجد نفسه وحضوره ليتلمس خصوصيته بأسلوب أكثر تعاليا.

وأضاف الجبوري موضحا: لم تكن تجربة كل شاعر بعيدة عن حقائقه وعن تكليف لغته الشعرية بالدور، الذي تقوم به للكشف عن نوازعه واسقاطاته، فأغلب الشعراء لديهم مشروعهم في اسقاط نوازعهم عبر جسد القصيدة، وهذا ما جعل الكثير منهم يكتبون القصيدة الحديثة من دون تقيد في فنيتها، لذا لمست السيرة عند اغلبهم مغلفة بمشروع (سير ذاتي) واضح، بمعنى استنهاض التفاصيل الشخصية والاجتماعية بوصفها مشروعا ثقافيا شعريا، وهي جزء من لعبة ذات بُعد أناني في الغالب، ربما أستثني القليل ممن لديهم مشروعهم الفكري العام.

وقال أيضا: (اعذب الشعر أكذبه)، مقولة قديمة عندما كانت القصيدة تسبح في فضاء اللغة المتعالية وفنون البلاغة والتراكيب الجملية منذ الشعر الجاهلي وحتى منتصف القرن الماضي، القصيدة الآن مشروع (سوسيو ثقافي) مناهض للفكر وتحولاته في ظل ما جاءت به اشتراطات ما بعد الحداثة وحياة العولمة، لتصبح أكثر تميزا وانتباهة، حين تكون واحدة من أهم المساهمين في قرار الإنسان الغاطس في فوضى العالم الآن، ولنا في تجارب الشعراء العراقيين وغيرهم الكثير، نظرا لما تؤول إليه جدلية الواقع المأزوم سواء في العراق أو في أية منطقة أخرى في العالم.

لم يترك الشاعر أثراً في تجربته، وأعني في العقود الماضية تحديدا، لأن العالم برمته تغير على وفق تغير ستراتيجي منذ موت الأيديولوجيا وصعود عالم الرأس مال وموت النظرية، التي كانت تتمتع بخطاب مؤثر في الواقع الاجتماعي والثقافي معاً، نحن الأدباء فقط نعتقد أن الشعر له تأثير على ارضيتنا غير أن الأمر مختلف تماما بوجود (الميديا)، ومتعة الاستثمار الاقتصادي لفنون أخرى كمباريات كرة القدم وغيرها، لم أشهد أية تجربة شعرية أعطت سمة التغيير الاجتماعي بشكل عام أو بشكل خاص.

الشاعر العراقي أو العربي المعاصر لم يترك سوى ما يقدمه من نتاج خاص به، فالثورات والتظاهرات والأزمات، لم تعط له خاصية في ابراز مشروعه لبقيَّ أثرا في حياته أو ساحته الثقافية، الشاعر لم يكن مثل حارس المرمى الذي تصدى بقدمه في اللحظة الأخيرة من مباراة نهائي كأس العالم الأخيرة، ليساهم بتتويج بلده (الأرجنتين) باللقب، الدولة صنعت من قدمه تمثالا، لأنه دخل تاريخ التتويج الذي يستحق وهو حضور عالمي الجميع يتحدث عنه، فلا أثر سوى في مضمار مجاله الثقافي الذي هو في الوقت ذاته مجال نخبوي. 


شطحاتٌ خياليَّة

الشاعر أحمد الشطري، أشار برأيه إلى عدم خلو كل المدونات السيرية (الأدبية) من الشطحات الخيالية، سواء كانت في تعظيم الذات، أو إضفاء النعوت الجميلة عليها، لافتا إلى أنها قد تقترب أو تبتعد من الحقيقة ولكنها لا يمكن أن تطابقها تمام المطابقة أو تتضاد معها كلية، مبينا أن ثمة جزءا من الحقيقة يظهر في مساحة الوصف الذاتي، ولكن من الصعب تمييزه أو فصله عن المتخيل، أو المبالغ فيه، من قبل المتلقين، وربما حتى من قبل الشاعر ذاته، فمن الطبيعي أن يرى كل إنسان - وليس الشاعر فقط -  أنه يمثل الصورة الأقرب للمثالية قياسا بالآخرين.

وقال الشطري أيضا: في كثير من الأحيان تكون الأنا المتضخمة هي حالة مزاجية، على الرغم من أنها تعتبر في منظور علم النفس حالة مرضية، غير أنها في بعض الأحيان تضفي نوعا من السمو أو التسامي على نفس الشاعر، فتحول بينه وبين الانحطاط الأخلاقي أو التخلي عن القيم العرفية، وقد تكون أحيانا باعثا للسعي لتحقيق الطموح والوصول إلى المكانة، التي تمنح الشاعر نوعا من التفرد أو ما يسمى بالنجومية، ولعل خير مثال على ذلك المتنبي العظيم، والذي لا يوجد شاعر في العربية يشبهه في تضخم الأنا أو النرجسية، ولكن هذه النرجسية العالية ساهمت في تكوين شخصيته الفريدة، وفتحت لشاعريته آفاقا أوسع للتحليق بعلو لم يصل إليه شاعر من قبل، ولا أظن أن شاعرا بعده سيصل إليه.

كما أن هناك فارقا يجب أن يؤخذ في الاعتبار في مفهومي الصدق والكذب في الفن، إذ لا يمكن أن يكون الفن مرآة عاكسة للحياة (كما أرى) ومن يظن ذلك فهو على وهم كبير، ولكنه يمكن أن يكون محاكاة لها، إذ أن مادة الفنّ الأولى هي الخيال ومن دون الخيال لا يمكن أن يُسمّى أيّ شكل مُنتجا فنّياً، ومن الخطأ أن نضع الخيال في ميزان مفهومي الصدق والكذب لأنهما من جنس الواقع، أو الحقائق، والخيال من جنس آخر، ومن غير المنطقي إجراء الأحكام على عالمين مختلفين بذات المعايير، فإذا أردنا أن نصف نصا أدبيا ما بالصدقية أو بعكسها لا بد أن نحلل جوانبه الفنية، وبمقدار تحقق التكامل الفني فيه تتحقق الصدقية والعكس صحيح. 

ومن هنا فإن مقولة (أكذب الشعر أعذبه)، لا يمكن النظر إليها بمفهومها الظاهري – وهو مفهوم شائع وسطحي كما أرى- بل يجب النظر إليها بالعمق الذي يستوجبه منظور فلسفة الفن، فالكذب كما هو معروف خلاف الحقيقة، واستعارته الوصفية هنا في وصف عذوبة الشعر لا يراد منها القول بأن الشعر هو خلاف الحقيقة، ولكن المقصود أن الشعر لا يمكن أن يكون الحقيقة المجردة، ولكنه في ذات الوقت ليس نقيضها.

بل هو عالم أو كون آخر يحمل حقيقته الذاتية المختلفة عن حقيقة الواقع وقد تلتقي أو تتشابه معه ولكنها ليست هو. 


أثر البيئة والأنا 

الشاعر عماد الدعمي، لفت بإجابته إلى أن الشاعر ابن بيئته، يتأثر بها وبكل ما يدور من حوله ، وأن لذلك تأثير كبير على نتاجه وغالبا ما نجد الشاعر أسيرا للأنا وهذا ينعكس على سيرته الذاتية وفي أغلب الأحيان لا يجد ذاته لذلك تراهم يبتعدون عن الحقيقة في وصف نفسه، وبما أنهم يملكون الطاقة الخيالية لذلك يرسمون العوالم المغايرة بطريقة وأخرى ونادرا ما أجد من يجسدون حقيقتهم، لأن الحقيقة تتعلق بعدة أمور تحيط بهم وربما تكشف أمورا لا يرغبون بكشفها لأنها تؤثر عليهم، وليس شرطا أن يكتب الشاعر كل ما يؤمن به لأن الشاعر كتلة متوهجة منفعلة بكل الأوقات تأتينا بالابتكار والجديد وفي كثير من الأحيان تخرج عن المنظومات العقلانية، ولكن هناك نقطة نظام حينما يتعلق الأمر بذاتهم.

وعن سؤالي له عن التجارب الشعرية التي تمثل حقائق مهمة عن سير حياة الشعراء؟ 

وعمن كتب انكسارات ذاته وانتصاراتها وعقباتها وارتحالاتها بين الماضي والحاضر بصدق قال الدعمي مبينا:  

كثير من تجارب الشعراء أثبتت هويتهم وحقيقتهم وطريقهم كالشاعر أحمد مطر والشاعر مظفر النواب.. وأؤمن أن نتاج الشاعر هو الدليل على انكساره وانتصاره وهو التجسيد لماضيه وحاضره بغض النظر عن حياته الخاصة وما مر بها من أحداث ومجريات.

وأكيد لكل شاعر تجربته الخاصة التي انعكست على شعره ايجابا أو سلبا .

فالشاعر كتلة متوهجة من المشاعر ولا محال كل ما يمر به يعكس تجربته الشعرية لأن العاطفة عند الشعراء أقوى من العقلانية وأؤكد عدم تبعية الشاعر لأي جهة لهو الدليل على صدق تجربته وما يؤمن به لأن الفضاء الواسع الممتد لا تقف بوجهه أي قيود.

وقال أيضا: الشاعر المحترف يستطيع أن يتلاعب بالمفردات ويوظفها بطريقته الخاصة لتكون ذات أثر كبير على متلقيها سواء كان من أصحاب (أعذب الشعر أكذبه) أو معبرا عن حياته الخاصة . 

ولا ريب أن صدق الإحساس والشعور في تجربة الشاعر لها الأثر الواضح في الإبداع. 

ونحن نعتقد أن الصدق من معايير الشاعر المتفوق لأنه يمس الواقع القريب من الناس وربما يعالج قضايا المجتمع المحيط به، ولكن هذا لا يمنع الشاعر من سلك طريقة الفن للفن التي تدخل ضمن إطار أعذب الشعر أكذبه لأن هذا المضمار ينتج عنه الإبداع أيضا، وأنا مع صدق الشاعر في تجربته.

الغرض من التجارب التي رسمت عوالم منتفخة عن ذواتها، الظهور والبروز بطرق أخرى لا تمت بصلة للشعر وتحت مسميات حداثوية بعيدة عن أنظمة الشعر وقوانينه وتاريخه وهذا دليل على تسلقهم لضعفهم الأدبي، فالشعر هو الشعر في كل زمان ومكان وليس الصور المغايرة، التي جاؤوا بها لغرض الظهور الإعلامي ليس إلا، وبكل الأحوال في النهاية لا يصح إلا الصحيح والدليل فشل كل المحاولات وعدم نجاحها وعمرها القصير، وبقي الشعر هو الشعر.. ويحدث ذلك دلالة على ضعف وعجز بعض ممن تسلقوا على مسمى الشعر ليصلوا إلى أغراض دنيوية وإعلامية ليس إلا. 

الأثر الذي يتركه تزييف الشاعر لحياته على المجتمع، معياره المتلقي برأيي، فثمة فرق بين متلقٍ حذقٍ ومتلق ساذجٍ وقد تتفاوت نسب المتلقين في ما بينهم تبعا للثقافة التي يتمتعون بها. 

وهنا يكمن دور النقاد في كشف الحقائق مع تكثيف الإعلام حول ذلك، وفعلا هناك كثيرون من تأثروا بتزييف الشاعر لحياته وبتجاربهم حتى على صعيد بعض الأدباء الذين سلكوا طريقهم.. بهذا يكون للوعي الأثر الكبير في ذلك وأدعو المتصدين لعملية الكشف من نقاد وباحثين تكثيف الجهود بشأن ذلك، لتقليل نسب من يتأثر بتلك التجارب والتي في أحيان كثيرة لا ترقى لخصال

الإنسان.