حسن الكعبي
اتساقا مع هذا الاحتيال على المعنى واللعب الحر للدلالة فقد جرى تحجيم الحادثة وانتزاع اهميتها، فهي وفق هذا المنظور لا تتعدى حدود محاولة اعلام الناس بفضل الامام علي بالنسبة لمن لا يعرفه، دون ان تحمل رسالة تخص امر خلافة علي ابن ابي طالب أو غيره وفق هذا الموجه الدلالي الحاف بهذه الحادثة، والذي دفع بالدولة الاسلامية إلى منعطف خطير سمح بتفكك وحدتها وتحويلها إلى كيانات مذهبية
متصارعة
تشير المصادر التاريخية إلى أنه وبعد عودة رسول الله (ص) من حجة الوداع، أمر أصحابه بالتوقف عند منطقة الجحفة قرب (غدير خم)، الذي اتخذ الحديث والعيد تسميته منه، وتواصل المصادر التاريخية: بأن رسول الله بعد أن صلى بأصحابه وبالجمع الغفير من المسلمين، فقد خطب بهم وتلا عليهم لائحة الحقوق والواجبات، التي تضم اعظم واهم التوصيات المفضية إلى تكوين استراتيجيات مهمة في بناء الدولة الاسلامية والحفاظ على منجزاتها بعد رحيله، ومن ثمة فقد عمد إلى ارتقاء ربوة عالية بمعية ابن عمه وربيبه ونصيره في نشر رسالته الالهية الامام علي ابن ابي طالب (ع)، وخطب في الجمع خطبته الشهيرة التي تضمنت مقولته» من كنت مولاه فهذا علي مولاه ... الخ الحديث «، واختتم بالآية الكريمة «اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا».
إن هذه الخطبة المهمة ومتضمناتها من المقولات، التي ترسم حركة ومسار المجتمع الاسلامي في مرحلة ما بعد الرسالة الاسلامية -اي بعد رحيل النبي (ص)-، تتكئ حسب المصادر التاريخية - الشيعية تحديدا - على موجهات اية التبليغ، اذ تذكر هذه المصادر عن «حنان بن سدير، عن أبيه عن أبي جعفر قال: لما نزل جبريل على عهد رسول الله في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» إلى آخر الآية قال: فمكث النبي ثلاثا حتى أتى الجحفة « وخطب في الناس هذه الخطبة المشهورة، لكن هذه الخطبة وما حف بها من احداث مهمة، وعلى الرغم من الاتفاق على صحتها ووقوعها تاريخيا ودون أن تلحق بالفبركات التاريخية، إلا أنها لم تكن بمنجى عن حقنها بمخترعات سردية، لعب التأويل ضمنها دورا مهما، من خلال تحريك الاتفاق على صحة هذه الواقعة إلى جهات اخرى، اكتست طابع الاختلاف، حيث اختلفت التفاسير حول اسباب نزول الآية ومزامناتها، إذ تتجه التفاسير الشيعية إلى ان الآية تحمل مداليل عامة، هي تبليغ الرسالة الاسلامية بشكل عام، ومداليل خاصة هي الاشهار بخلافة علي ابن طالب (ع)، في حين اسقطت التفاسير السنية المدلول الخاص، واعتمدت المجال الدلالي العام للآية .
اتساقا مع هذا الاحتيال على المعنى واللعب الحر للدلالة فقد جرى تحجيم الحادثة وانتزاع اهميتها، فهي وفق هذا المنظور لا تتعدى حدود محاولة اعلام الناس بفضل الامام علي بالنسبة لمن لا يعرفه، دون ان تحمل رسالة تخص امر خلافة علي ابن ابي طالب أو غيره وفق هذا الموجه الدلالي الحاف بهذه الحادثة، والذي دفع بالدولة الاسلامية إلى منعطف خطير سمح بتفكك وحدتها وتحويلها إلى كيانات مذهبية متصارعة .
إن الاشكالية استنادا على هذه العتبة تكمن في حدود حقن خطبة الرسول بكثافة رمزية مسقطة على الخطبة- اي انها كثافة رمزية من خارج الخطبة - لتعويم دلالتها وانتاج تأويلات مختلفة ولا متناهية حولها، كما ان الصراعات المذهبية فيما بعد ظلت محصورة ضمن هذه الحدود التأويلية اي مواجهة التأويلات بتأويلات مضادة تحاول أن توجه دلالات الخطبة إلى مقصدياتها، الامر الذي منع ظهور مقاربات تتعدى حدود التحيزات المذهبية، لإنتاج قراءة واعية تخضع النص التاريخي وشخصياته ضمن اطار مقاربة منهجية همهما الحقيقة، فهذه النوع من القراءات المتعالية على الاكراهات المذهبية بإمكانها الاقتراب من روح النص ومقصدياته، فاستنادا على النصوص التي درست حياة شخصية عظيمة كشخصية الرسول، فانه لا يمكن ان يصدر عن رسول الله (وهو خاتم الانبياء واعظمهم على الاطلاق) استخفاف بمصائر الناس،من خلال جمعهم في يوم حار جدا وفي منطقة موبوءة ليخبرهم بفضل ابن عمه وحسب، حسب الموجه الدلالي الذي يحاول ان يلمح إلى تحيزات عرقية عند الرسول، اضافة إلى ذلك وحسب المنهجيات الاسلوبية التي درست خطب الرسول والتي اجمعت على ان خطب الرسول تتميز بالاقتصاد اللغوي والوضوح الدلالي وشفافية الرمز، ومن هذا المنطلق وبالعودة إلى خطبة الرسول فانه يمكن موضعة الخطبة ضمن سياقات الاساليب الحجاجية، فالرسول كما تشير المصادر ابتدر الناس بالمساءلة «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه.
قال ابن عباس: فوجبت والله في رقاب القوم.»، وهذه قرينة واضحة لربط ولاية علي بن ابي طالب بولاية الله ورسوله ولا يمكن ان تسمح بهذا النوع من التنافذ والتعدد الدلالي .
وفقا لهذا التصور فان حادثة الغدير تؤسس للاعتقاد بوجوب اعتمادها كاهم حادثة تاريخية في عمر الدولة الاسلامية وكأهم منطلق حضاري لها، لما تحمله من متضمنات تسهم في بناء دولة مثالية، كما اراد رسول لها ضمن مخططاته المستقبلية للدولة الاسلامية، في رسالته الواضحة التي اعلنها ضمن هذه الحادثة الكبرى التي استحقت ان تكون عيدا ثالثا في حياة المسلمين، بل ومن اهم اعيادها فهي بمثابة التذكير بضرورة العودة إلى قراءة التاريخ بعيدا التحيزات المذهبية والاحتكام إلى الموجهات الموضوعية والمنهجية للابتعاد عن الانقسامات المذهبية التي اسهمت بانهيار الدولة الاسلامية وحضارتها الكبرى.