التنمية البشريَّة وقوانين الجذب والطاقة.. رواجٌ كبيرٌ وتشكيكٌ علمي
احمد نجم
هل حقاً أن "كل إنسان هو المسؤول عن جودة حياته وصحته وأهدافه وأحلامه ولا يوجد أي ظرف في الكون ممكن أن يؤثر فيه" كما يقول أحد أشهر رواد التنمية البشرية عربياً، فاليوم لم يعد مدربو ما يعرف بالتنمية البشرية يتحدثون عن تنظيم الوقت وأساليب النجاح وتطوير الذات والنفخ في أرواح الباحثين عن الطرق السريعة للنجاح والثروة والشهرة فقط.
الكثير من مدربي التنمية البشرية لجؤوا لمجالات كثيرة يصعب حصرها وتحديدها بشكل دقيق لكنها رائجة بشكل صادم على منصات التواصل الاجتماعي وتحظى صفحاتهم أو فيديواتهم بأرقام عالية من المتابعين والمشاهدات، أبرز تلك المجالات التي تحظى برواج كبير هي قوانين الجذب والطاقة وتحرير العقل الباطن والتفكير الايجابي والبرمجة اللغوية العصبية والاسقاط النجمي، ولكل من هذه المصطلحات قوانينها وآلياتها، فمثلاً يختص الاسقاط النجمي بآليات تعمل على نوم الجسد وبقاء الدماغ واعياً من خلال الاستلقاء على الظهر واسترخاء العضلات في تجربة شبيهة بالتجارب الروحية الهندية.
ترويج
عشرات الآلاف من المتابعين والمؤمنين ايماناً راسخاً بالآليات التي يروج لها مدربون أو خبراء التنمية البشرية أو الطاقة وجلسات التأمل وغيرها، يدفعون أجوراً مالية تبدأ من مبالغ بسيطة لا تتعدى قيمتها بطاقات تعبئة الهاتف النقال وتصل لمئات أو آلاف الدولارات أحياناً بحسب أهمية المواضيع وقدرة المدرب على الترويج والاقناع.
إذ يقول المدون ثامر الريس في حديثه لـ (الصباح) إن "أسعار الاشتراك في بعض الدورات التي تقام الكترونياً تصل إلى 666 دولاراً أو 888 دولاراً"، مشيراً إلى "التعمد في اختيار أرقام مميزة لأسعار الدورات".
غموضٌ وجاذبيَّة
رغم تعدد الأساليب والمصطلحات، لكن هنالك سمات مشتركة تتلاقى فيها تلك الاتجاهات، أبرزها استخدام المصطلحات التي تجمع بين الغموض والجاذبية، والتركيز على تقديم الدعم النفسي المبالغ به للمشاركين والذي يصل غالباً إلى الثقة الوهمية بالنفس، وإغراق المتابعين بالأحلام والوعود والاسراف في وصف قدراتهم على التحدي والنجاح، بالإضافة إلى التركيز على عامل السرعة في احداث التغييرات الخاصة بحياتهم، ولذلك يكثر استخدام تعابير، مثل (ساعة تغير حياتك أو كيف تتعلم أمراً ما خلال أسبوع واحد فقط).
ويستند البعض من المدربين على أسس دينية، إذ يُستدل أحياناً من نصوص قرآنية أو أحاديث نبوية وأحياناً من أدلة علمية وعقلية من دون أن يتم توضيح المنهج المتبع.
ما هو العلم؟
يلجأ بعض المنظرين إلى ربط مجالات ومفاهيم التنمية البشرية بالمؤشر الذي تعتمده الأمم المتحدة للتنمية البشرية (human devlopment)، غير أن الاشتراك في المصطلح لا يمثل اشتراكاً في المعنى، إذ إن مؤشر الأمم المتحدة يستعمل بحسب موقع الأمم المتحدة لقياس مستوى الرفاهية للشعوب والسعي لتحسين أوضاع المواطنين من خلال قياس مستوى الدخل والقدرة الشرائية ومتوسط العمر المتوقع، فهو مؤشر اقتصادي – اجتماعي، أما ما يسمى بالتنمية البشرية عربياً، فهو أقرب للمصطلح (self help) أي المساعدة الذاتية، والذي بدأ في بدايات القرن الماضي بهدف التحفيز وتنظيم الوقت وتعليم المهارات.
غير أن سهام النقد العلمي ظلت موجهة نحو هذا الاتجاه الجديد منذ ذلك الوقت، أي قبل أن يتم ابتكار مجالات كثيرة يصنفها العلم بشكل قاطع كعلم زائف.
يوضح الباحث في مجال العلوم مصطفى رافد، أن "مصطلح علم زائف يطلق على المجالات التي تبدو كعلوم حقيقية خاصة بالنسبة لغير المختصين، ولكن لا تتوفر فيها الشروط العلمية".
ويضيف رافد: أن "أهم هذه الشروط هو ما يعرف بمنطق البحث العلمي والذي ينص على أن أي شيء يقدم كعلم يجب أن يكون قابلاً للتخطئة أو ما يسمى قابلية الدحض". منوهاً بأن "العلم الزائف يعد شكلاً حديثاً من أشكال الدجل والشعوذة أيضاً" فمثلاً حين أدعي بأنني أملك سفينة فضائية في المنزل بالإمكان اثبات ذلك أو نفيه من خلال زيارة البيت وفحص السفينة، ولكن حين أدعي مثلاً أن هذه السفينة في مكان مخفي في صحراء ما، فلا قيمة علمية لذلك لعدم إمكانية اجراء الفحص وإثبات أو نفي ذلك، إذ إن التنمية البشرية غالباً ما تكون من النوع الثاني الذي يقدم الادعاءات من دون أن تكون لها إمكانية الدراسة والإثبات أو النفي".
خلال دراسته الجامعية كان مصطفى رافد شاهداً على بدء استقطاب الجامعات العراقية لمدربي التنمية البشرية لإقامة محاضرات تدريبية للطلبة، وحين أخبر أحد أساتذة القسم بتصنيف هذا المجال كعلم زائف قال له "ماكو مشكلة المهم علم!".
لكن أكرم جدوع، أحد مدربي التنمية البشرية، ومختص بمجال الطاقة الحيوية يرى من خلال حديثه لـ (الصباح)، أن "التنمية البشرية علم أعلى من العلوم الأرضية المادية المبنية على الملاحظة والتجربة والنظريات والتطبيقات"، ويقول أنه "علم فوق المادة ولا يقاس كما تقاس العلوم الأخرى".
الطاقة للبيع
أحد الفيديوهات الرائجة يظهر فيه مدرب شهير في مجال التنمية البشرية يعلم المتابعين تنظيم طاقة الجسم، إذ يمد يديه للأمام والكف بشكل عمودي ومعاكس لليد الأخرى، ثم يشابك أصابع اليدين مع بعضها ويضع الرجل اليسرى على اليمنى، ثم يبدأ بالشهيق والزفير المنتظمين وتترافق مع حركات تدوير لليدين المتشابكتين، قد يبدو هذا نوعاً من التسلية أو السخرية، لكنه يقدم لمئات الآلاف من المتابعين كمنهج علمي لتنظيم طاقة الجسم.
أسعار الدورات أو المحاضرات التي يقدمها المدربون تصل لمئات الدولارات وتقدم حضورياً أو الكترونياً، يقول المدون ثامر الريس: إن "دورات الماستر تصل أحياناً إلى مبلغ 3000 دولار".
ويضيف "تباع أحياناً أدوات بسيطة يدعون أنها محملة بالطاقة مثل الأساور أو الشموع أو البخور بمبالغ كبيرة تصل إلى 200 دولار".
ويرى الريس أن "ذروة الانتشار لبيع الطاقة وتنظيم الدورات الخاصة بها كانت مع بداية انتشار كورونا قبل أربع سنوات"، توجه الريس بدافع الفضول للاشتراك بإحدى الدورات ويقول إنه تأكد من كون الموضوع "مزيفاً بالكامل" إذ كانت الدورة عبارة عن تعليم المتدربين تمارين جسدية شبيهة باليوغا لجذب الطاقة إلى أجسادهم.
يقدم الدكتور كريم الترابي نفسه كاستشاري تنمية بشرية، وبرمجة لغوية عصبية، تحدث لـ (الصباح)، عن انقلاب المفاهيم الخاصة بهذا المجال في العراق، إذ قال: إن "الموضوع داخل العراق أصبح عبثياً وتجارياً، والمدربون يحصلون على شهاداتهم بعد يومين أو ثلاثة بدلاً من دراسة طويلة تستمر لسنوات".
وأضاف الترابي، بأنه درس ذلك في سويسرا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية بواقع 6 "كورسات"، يتألف كل منها من 120-140 ساعة دراسية، لكنه يقر بأن تلك الدراسة لم تكن أكاديمية وتنظمها مؤسسات تعليمية وليست جامعات".
بالنسبة للترابي، فيؤكد أنه استطاع معالجة المئات من الحالات المرضية من المصابين بالخوف والقلق والتوتر والوسواس القهري، بينما يحيل الحالات الشديدة إلى الطبيب النفسي.
أما ثامر الريس، الذي يستغل حسابه الشخصي على الانستغرام لمتابعة وتفنيد ادعاءات بعض مشاهير التنمية البشرية، فقد وجد أن أحد أشهر المروجين لقوانين الجذب والطاقة تحمل شهادة وهمية ومزيفة ممنوحة لها من مؤسسة تدعي أن لها مقراً في أميركا، عندما بحث الريس عن المؤسسة وجد أنها وهمية ويشير موقعها الجغرافي إلى غابة أميركية.
اضطرابات نفسيَّة
يشخص الباحث النفسي علي كاظم، الفئات الاجتماعية الأكثر انجذاباً لهذه المجالات وهي الفئات الأكثر احباطاً من الحياة "أي الذين يرغبون برفع مستوى الحماس والشعور بالسعادة والحلول السحرية والسريعة لمشكلاتهم، وخاصة من النساء والذين يعانون من البطالة".
ويشير إلى وجود آثار مدمرة تظهر على بعض الأشخاص منها الاحباط الكبير بعد انتهاء فترة النشوة التي تمنحها له هذه الأفكار في البداية، وتؤدي بالبعض إلى الادمان على هذه المجالات من دون أن تؤدي إلى تطور حقيقي في حياته.
يفكك الباحث النفسي الخطاب المتبع من قبل المدربين "إذ يتم التركيز على الكلام المنمق والمصطلحات الجذابة والمشوقة والاغراق في الوعود والأوهام، بالإضافة للاستشهاد بقصص نجاح نادرة، وتعميمها باعتبار جميع الناس قادرين على تكرارها كما يحصل مع قصص نجاح المليارديرية مثلاً". ويؤكد كاظم أن "تطوير الذات يجب أن يتم وفقاً لخطة تُعد بناء على دراسة حالة كل فرد، ومعرفة مشكلاته بعمق"، ويستدرك بحديثه "أما ما يحصل حالياً فهو بيع كلام وأوهام قد تقود لاضطرابات نفسية عديدة"، وكان هو شاهداً على إحدى تلك الحالات التي أشرف على علاجها في أحد المراكز النفسية، ويذكر بأن المريضة تكونت لديها بعد فترة من الاهتمام والمتابعة والايمان الكامل بهذه الأفكار، مفاهيم روحية خاصة وغريبة "فكانت ترى مثلاً أن الماء مضر صحياً ونستطيع العيش من دونه". هل يستفيد أحد فعلياً من التنمية البشرية؟، أم أن الروائي المصري الشهير احمد خالد توفيق كان محقاً بقوله "الطريقة الوحيدة للنجاح عبر التنمية البشرية هي أن تصبح مدرباً للتنمية البشرية".