عبد الغفار العطوي
نحن ندرك إن العالم الذي يحيطنا يخضع لنظام أو مجموعة من أنظمة، تبدأ من ذاتنا التي هي النواة الركيزة في أول تعرفنا عليه، حتى نصل إلى أوسع فضاء في وجودنا البشري.
اليوم نتعرف على هذه الأنظمة التي نطلق عليها "الأنظمة السيميائية" المحددة لوعينا، ثم لتساؤلات تضعنا أمام محنة الانصات لنظام نسقي هو خارجنا، ونحن إنما نذعن له، نشاركه في معالم الأشياء الصغيرة والكبيرة، لنفهم أن حياتنا التي نخوض تجاربها هي عبارة عن علامات من كون سيميائي!
يبدو أن مفهوم الكون السيميائي الذي ابتكره يوري لوتمان عام 1984 بصورة عامة وقع تحت تأثير مفهوم الكون الحيوي، أو كما عرفه فلاديمير فيرنادسكي بكون الفكر الإنساني، وما يبعث على التأمل هو الذي يدفعنا للكتابة حول موضوع السيمياء اللوتمانية ومدى توغلها كعلم له دلالاته في تشكيل الفضاء السيميائي في حياتنا الاجتماعية والثقافية، وبحضور مفاهيم ارتكز عليها الأساس المفاهيمي في مشروع لوتمان، مثل "الفضاء والنص والنسق والذاكرة والترجمة والحوار" التي وسعت من تناول السيمياء للفضاءات الإنسانية الحيوية سندرك توفر العلامات في حياتنا المعيشية، فتصورنا للعالم الذي تنتشر به العلامات كدلائل حيوية في معرفتنا يعطينا القدرة على الحياة. لقد قام لوتمان بنقل الكون الحيوي نحو كون سيميائي، ولعل نظرية فيرنادسكي التي اعتبرت أن لا معنى للإنسان في ذاته في هذا العالم مثل بقية الكائنات الحية، ولاعيش له بمعزل عن محيطه "الكون الحيوي"، فلزوم تواجد الذات البشرية هو الذي يهب للمعيش معنى في هذا الكون، كذلك إن هذا الكون لا يمكنه ادراك ذاته بدون تلك الذات البشرية. وهذه النظرية مستقاة من فلسفة موريس ميرلبونتي في تعبيره، من كون في الأساس أن الإنسان يمثل جسد العالم، وإن ما يقوم به ذاك الجسد من وظائف في الحركة والتعبير، إنما يمثل الوسيط بين الإنسان والعالم، وهو يحقق وجوده فيه، والأداة التي تجعله حاضراً في العالم وجزءاً من الواقع.
لوتمان أراد العمل على مد الجسور بين العلوم الإنسانية والعلوم البحتة، وقدم وصفاً للخصائص البنيوية الكبرى لمفهوم الكون السيميائي باعتباره فضاء سيميائيا، وهذا يعني استحالة الحديث عن أية سيرورة دلالية في المستويات الإيحائية والتقريرية التي لها، وبالتالي تنطوي على إنتاج وتلقي العلامات، فالعلامات محيطة ليس بعالمنا المادي المنظور، بل هي تكتنف حياتنا المعيشية، بحيث تشكل وجودنا، لدرجة إننا لا نستطيع التعرف على وجودنا ما لم نكن نمتلك العالم كعلامات في سيرورتها الدلالية كفضاء ونص ونسق وذاكرة وحوار وترجمة، د. حسيب الكوش في "السرديات المعرفية من الأيقونية إلى التوترية" يتعرض للكون السيميائي عند لوتمان من زاوية أخرى، من علاقة المركز للكون السيميائي مع محيطه "تنظيم الكون السيميائي – المركز والهامش عبد الله بريمي" في مواجهة توترية، في تطوير للسيميائيات اللوتمانية نحو سيميائيات توترية، مادام الكون السيميائي يعتمد على النص في تحولات سيرورته الدلالية، فإذا ما عرف لوتمان الكون السيميائي بناء على وصفه القائم على تعميق الفكرة المختزلة للكون السيميائي من خلال التواصل الفعال الذي قام بتغيير مسار خطاطة جاكبسون على إثر محاولته في تعديلها: إن الكون السيميائي هو تمثل متعدد الأبعاد لنسق متعدد متحرك، ويلزمنا إدراك هذا الفضاء الثقافي بوصفه تنظيماً لعدد من العناصر المتغيرة المتجددة باستمرار. بما يعني أن العملية التواصلية التي استند إليها لوتمان في صياغته للكون السيميائي، ساهمت في إحداث تغيير جذري لعملية معقدة غيرت من العناصر الستة للخطاطة، باعتبارها ليست دائماً شرطاً كافياً لإنتاج فعل تواصلي.
ولعل الفهم السيميائي للكون السيميائي قد غير من فهمنا لدور العلامات في حياتنا الاجتماعية، وجعلنا ندرك كيف لو لم تكن ثمة علامات تسبح في فضاء معرفتنا وثقافتنا ووعينا. فلوتمان، في هذا الاطار الوظيفي للكون السيميائي قد أوجد لنا منفذاً لفهم العالم، خاصة حينما فصله وفق مركز – هامش، فقد اعتبر أن كل كون سيميائي يتألف من مركز أو نواة، ومن هامش أو محيط، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معالم هذا الكون غير دقيقة وغامضة وفي استمرار متغير، من ناحية ثانية يعتمد هذا الكون السيميائي وفق ما جاء في "السرديات المعرفية" على فكرة التوتر في محيط الكون بالانتقال الفجائي للعلامة من مرتبة لأخرى بما يعني "السيميوزوس والتوليد الأيقوني" حيث يميز لوتمان بين السيميوزيس باعتباره ظاهرة معرفية، والسيميوطيقا بوصفها منهجاً. لهذا صبت جهود جورج لاديكوف ومارك جونسون في كتابهما الذائع الصيت "الفلسفة في الجسد الذهن المتجسد وتحديه للفكر الغربي" في مجرى تعليم "وضع العلامات كأدوات تعريفية" في طريقنا المعيش، وإن اختلف هذان الباحثان عن كتابة لوتمان حول معنى الكون السيميائي، فقد قدما العلامات التي تكتسح حياتنا من منطلق الاستعارة كي نتوقع الإجابة على السؤال الآتي: من نكون؟ طالما ارتأينا مطالعة مسار الأنظمة السيميائية التي تهدينا في حالك وجودنا المبهم دونها، من حقنا مواجهة خطر الانزلاق نحو المتاهة الفكرية التي يفتحها الباحثان في هذا الكتاب الشهير الممتع: كيف يعيد العلم المعرفي فتح القضايا الفلسفية المركزية؟ بعد أن تعلمنا شغف ذواتنا بنظام العلامات، وإنه ليس بمقدورنا الاستغناء عنها، في تمييز حاجتنا الاستعارية في المعيش المشترك مع الآخرين، حتى نجد إن تجاربنا المعيشية والحياتية هي انعكاس ثقافي وفكري وفلسفي لأفكار الغير، ولأفكارنا نحن، قد قمنا باستعارتها، وتمت تغطيتها بسعينا في إحياء علم معرفي، يعيد صياغة العلامات التي أشار إليها علم السيمياء وتوجتها الاستعارة المعرفية. ولعلنا نفطن لفلسفة بول ريكور في الإرادة التي حاولت الاستعارة في صورة العلاقة بين الوجود والسرد، وفي هذا علينا أن نقف مع مقدمة المترجم لكتاب الفلسفة في الجسد هذا، حيث قال: يسعى هذا الكتاب إلى إعادة النظر في جزء هام من الادبيات الفلسفية بناء على نتائج توصل إليها العلم المعرفي المعتمد على الأبعاد التجريبية، وبالتالي نقدر الجهود العظيمة التي رسخها لوتمان في وضع حدود ثقافية لكون سيميائي وضع الإنسان على بداية السكة.