د. حيدر عبد السادة جودة
يشير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى وجود مجموعة من الحواجز التي تعمل على ضمان وحراسة الفضاء الخطابي والتقليل من الذوات المتكلمة. وتكمن هذه الإجراءات في مراقبة الخطابات، إلا أن الأمر هذه المرة، لا يتعلق بالتحكم في السلطة التي تحملها الخطابات ولا بالحد من صدف ظهورها، بل بتحديد شروط استخدامها، وبفرض عدد من القواعد على الأفراد الذين يلقونها، ومن ثمة بعدم السماح لكل الناس بالدخول إليها..
في هذه المرة يتعلق الأمر بالقليل من عدد الذوات المتكلمة؛ لن يدخل أحد في نظام الخطاب إذا لم يكن يستجيب لبعض المتطلبات، أو إذا لم يكن مؤهلاً للقيام بذلك، منذ البداية.
وتتألف هذه المجموعة من ثلاث اجراءات، وهي:
الأولى جمعيات الخطاب، وتكمن وظيفتها في الحفاظ على الخطابات أو انتاجها، لكنها تفعل ذلك لكي تجعل هذه الخطابات تتداول في مجال مغلق، ولئلا توزعها إلا على وفق قواعد مضبوطة وبدون أن يؤدي هذا التوزيع نفسه إلى تجريد أصحابها منها، وبالتالي فالعمل الذي تقوم به جمعيات الخطاب في أن هذه الأخيرة تضمن تداول الخطاب داخل مجال مغلق، حسب قواعد مضبوطة.
ويؤكد فوكو على أنه لم يبق هناك بتاتاً ما يماثل جمعيات الخطاب هاته، مع ما يصاحبها من لعب مبهم بين السر والانتشار، لكن يجب ألا يخدعنا ذلك؛ فحتى ضمن نظام الخطاب الحقيقي، وحتى ضمن نظام الخطاب المنشور والمتحرر من كل الطقوس، فإنه لا تزال تمارس أشكالا من تملك السر ومن عدم قابلية التبادل الداخلي.
ومهمة هذا الإجراء هو الحفاظ على الخطاب، وعلى تداوله في نطاق ضيق، وجعل مجاله مغلقاً قدر الإمكان، كالأسرار التقنية أو التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية.
ويقارن فوكو ما بين الخطاب الأوروبي والخطاب الشرقي، فيقول: بدل المعرفة المحتكرة والسرية في الاستبداد الشرقي، تقدم أوروبا مثالاً معكوساً، التواصل الشمولي للمعرفة والتبادل اللامحدود والحر للخطابات.
وهذا ما لم يفقهه فوكو، خصوصاً في الآونة الأخيرة، لأن منطق الاحتكار والاستبداد ولد من رحم الفكر الكولونيالي الغربي.
في قبال جمعيات الخطاب، هناك المذاهب الدينية والفلسفية والسياسية، والتي تمثل نقيضاً لجمعيات الخطاب، فإن عدد الأفراد المتكلمين في جمعية الخطاب، حتى ولو لم يكن محدداً بالضبط، فهو يميل إلى أن يكون محصوراً؛ ولا يمكن تداول أو تناقل الخطاب إلا بين هؤلاء، أما المذهب فيميل إلى الانتشار؛ وبواسطة الاستعمال المشترك لنفس المجموعة الواحدة من الخطابات يعرف عدد من الأفراد - مهما تخيلنا عددهم - انتمائهم المتبادل، وهي وإن كانت ميالة للانتشار، إلا أنها تدخل في سياق إجراءات مراقبة الخطاب والتحكم فيه، ما دامت تضبط في آن واحد صيغة الملفوظ والذات المتكلمة انطلاقاً من نظام تعبيري محدد سلفاً، يمنع نشوء أنماط من التعبير ويسمح ببعضها الآخر ضماناً لربط الأفراد فيما بينهم وتمييزهم عن الآخرين غير المنضوين في المذاهب.
ويتعلق الانتماء المذهبي، في نفس الوقت، بالمنطوق وبالذات المتكلمة ويساءل أحدهما الآخر، فهو يساءل الذات المتكلمة من خلال المنطوق وانطلاقاً منه، كما تبرهن على ذلك إجراءات الإبعاد وآليات الرفض التي تأتي لتمارس عملها عندما تصوغ الذات المتكلمة منطوقاً أو عدة منطوقات غير متشابهة.
فالسمة البارزة في المذاهب هي الانتشار، والقاعدة الأساسية هي الاعتراف بنفس الحقائق، وهو ما يحقق الانتماء المذهبي، وأما من يخالف المذهب يعتبر بدعة، لذلك تعتبر المذاهب شروط وحدود لتداول الخطاب وتعميم لوظائفه داخل المذهب الديني والفلسفي أو السياسي، وهدفه اخضاع الذوات والجماعات المنتمية لخطاب المذهب.
وبحسب فوكو، يطرح المذهب مسألة المنطوقات انطلاقاً من الذوات المتكلمة، من حيث أنه يصلح دوماً للاستعمال كعلامة وكتجل، وكأداة لانتماء مسبق، سواء كان هذا الانتماء طبقي أو انتماء لثورة أو لمقاومة... المذهب أخيراً، يحقق إخضاعاً مزدوجاً: اخضاع الذوات المتكلمة للخطابات، واخضاع الخطابات لجماعة الأفراد المتكلمين، ولو كانت جماعة ضمنية على الأقل.
ينتقل فوكو بعد ذلك إلى الإجراء الثالث من هذه المجموعة، وهو التملك الاجتماعي للخطابات، فهي الأداة التي تحقق الاندماج الشرعي للأفراد داخل فضاء الخطاب. ويتحدث فوكو في هذا المجال عن مسألة تقنين الخطاب. فيرى إن للتربية الحق قانونياً في أن تكون هي الأداة التي يمكن بفضلها لكل فرد أن ينخرط في أي نوع من أنواع الخطاب، وتعتبر التربية والتعليم الأداة الأساسية التي تمكن من امتلاك الخطاب، وأي نوع من أنواع الخطاب، إلا أنه وكما هو معروف، فإن المنظومة التربوية لا يمكن فصلها عن الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمع معين، فكل منظومة تربوية عبارة عن طريقة سياسية للابقاء على تملك الخطابات أو لتعديل هذا التملك، بجانب ما تحمله هذه الخطابات من معارف وسلط.
وفي كل الأحوال، فإن جماعات الخطاب والمذاهب والتربية أو التملك الاجتماعي للخطابات، تمثل الأشكال الأساسية الكبرى التي تحدد وظيفة الخطاب وتداوله وملكيته، متعاونة مع المنظومة الخارجية والداخلية في مراقبة الخطاب والحد من سلطته.
وينتهي ميشيل فوكو إلى القول: إن الحضارة الغربية تبدو أكثر الحضارات احتراماً للخطاب، لكنها في الواقع هي أكثر الحضارات منعاً ومراقبة له، لقد قيدته بافتراض حقائق مثالية تكون قانوناً له، بإقامة أخلاق للمعرفة تبحث عن لذة اليقين، فمنذ طرد شبح السفسطائي أصبح للخطاب أضأل موقع بين الفكر الكلام، ويبدو أن الفكر الغربي قد حرص على أن تظهر ممارسة الخطاب كنوع من التفاعل بين فعل التفكير وفعل الكلام، سيكون الخطاب فكراً مكسواً بعلاماته، فكراً جعلته الكلمات مرئياً، أو على العكس من ذلك ستكون هذه الكلمات هي نفس بنيان اللغة المستعملة والمنتجة لمفعول المعنى.