مونودراما المكان الفلسطيني وتجلياته

ثقافة 2024/07/01
...

  علي العقباني


تزامنا مع تكريمه في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق قدم غنام غنام مسرحيته الأخيرة مونودراما "بأم عيني" في المسرح الدائري أو مسرح فواز الساجر. 

وغنام غنام مخرج مؤلف وممثل مسرحي ولد في العام 1955 في أريحا، استهل غنام العمل في السبعينيات برفقة مجموعات مسرحية محلية في مسارح مدينة يافا في غزة، ثم بعد انتقاله للأردن أسس مع عدد من زملائه " فرقة جرش المسرحية للهواة"، تدور مجمل أعماله حول معاناة الفرد الفلسطيني تحت الاحتلال الاسرائيلي.

اعتاد غنام أن يستقبل ضيوفه على باب المسرح مرحباً بهم، وحين يدخل الخشبة أو أي مكان في ساحة أو صالة سيكون قد آلف الوجوه والأشخاص وأصبح واحداً منهم يحدثهم كأنه يسهر معهم كل ليلة، هكذا كان في دمشق، والجمهور متحلقون حوله بشكل شبه دائري وقريب ومرتفع وهو هناك سيروي لنا حكايته، حكايتهم، حكاية فلسطين ومدنها، وحكاية الإسرائيلي   الذي لم يره طيلة رحلته من رام الله إلى الداخل الفلسطيني.

"بأم عيني" هو نفسه عنوان كتاب للمحامية والناشطة الإسرائيلية، فانيتسيا لانغر، والتي كانت من أهم المدافعين عن حقوق المعتقلين الفلسطينيين في المحاكم الإسرائيلية الصورية وساهمت في فضح سياسيات الاحتلال اللا أخلاقية في الاستيطان والاعتقال والقمع، وتعرضت إلى حملة شرسة من الكيان، مما اضطرها لمغادرة فلسطين إلى ألمانيا عام 1990 حتى وفاتها هناك عام 2018 عن عمر ناهز 88عاماً، وهي التي قالت عند مغادرتها: "قررتُ أنه لا يمكن أن أكون ورقة التين التي تستر عورة إسرائيل"، وهو كذلك إشارة إلى أن ما سيرويه غنام "كراوٍ وممثل ومونودرامي قدير حدث فعلاً، بكل تفاصليه وأحداثه وشخصياته،  أو هو من مخيال غنام كاملاً" فما رآه هناك رآه "بأم عينيه" وستكون معظم الأسماء حقيقية وفعلية، تلك لعبة مسرحية بغاية الذكاء إذ أننا في تلك الحالة سنكون جزءاً من اللعبة التي سيدمجنا بها معه من البداية من خلال ترحيبه الذي يستهل به عرضه وربما عروض سابقة كما في "سأموت في المنفى" وفيها يقول: "الله يمسّيكم بالخير ويمسي الخير فيكم، لأنو الإنسان بيحلى بالأيام والأيام بتحلى بالإنسان، وأحلى الناس هم البني آدمين، وأحلى البني آدمين هم الناس، ومساء الخير ع البني آدمين" منتظراً الرد من الجمهور الذي على أساسه سيحدد علاقته التفاعلية معه، وسيذكر بأغاني وأشعار وأسماء، وبها سيبدأ لعبته أو حكاياته بانياً علاقة عضوية مع الحضور ومؤسساً لما سيأتي لاحقاً من أحداث، ربما يفعل غنام ذلك في كل عروضه المونودرامية، لكنه هنا يتكئ على مسرحية سابقة ليفتح مجال الحكايات على مصرعيها، حيث سيروي خلال عرضه مسرحية "سأموت في المنفى" في مدينة رام الله عن رغبته في رؤية ابنتيه اللتان تعيشان في ترشيحا أي في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1948 وهو يعرف صعوبة ذلك وربما استحالته. وهنا تبدأ المفاجآت حيث تقول له صديقته عبلة "رح تدخل لجوا وتشوفهن، منرتبها ما تخفش"، بتلك اللهجة الفلسطينية المحببة، وكذلك دخول قريبه على الخط ومشاركته في تلك الرحلة التي يُفترض بأنها سرية لخطورتها ولنكتشف أن الجميع في الداخل إلى حد ما يعلم بتلك الرحلة.

هنا تبدأ أخطر الألعاب المسرحية في فن المونودراما، إذ على غنام أن يقنعنا بحكايته "فهو وحيد على المسرح بلا إضافات، لا إضاءة ولا موسيقى ولا ديكور" يأخذنا في رحلته ويشدنا لنبقى معه طوال مدة العرض. بل ويشركنا في أسئلته وهواجسه، فالحدود الفاصلة بين غنام الممثل والراوي وصاحب التجربة والحكاية واهية ومتداخلة.. وهنا تذكرني تلك الرحلة والخوف والاستحالة وربما الوهم "عندما تجاوز شبان سوريون وفلسطينيون الأسلاك الشائكة وحقول الألغام في الجولان السوري المحتل عبر موقع عين التينة مقابل مجدل شمس من دون أن ينفجر لغم واحد، ووصل بعض الذين دخلوا إلى العمق الفلسطيني". يفعل غنام ذلك برشاقة ووعي، رامياً بتلك الأسئلة العميقة والبسيطة والإشكالية في وجوهنا. فبعد كل سنوات الاحتلال الطويلة وما نعرفه عن إسرائيل وتعاملها مع الفلسطينيين والاستيطان ومحاولة طمس التاريخ والمكان، لا زالت عكا هي عكا باسمها وشوارعها وأزقتها ولا زال منزل الشهيد غسان كنفاني يُعرف بهذا الاسم، ولا زال بالإمكان إقامة عرض مسرحي وورشة عمل، والتجول في الليل والنهار طارحا السؤال: "هوا الإسرائيلي وين؟".

المكان والشخصية الفلسطينية محرضان هنا الغوص في عمق الحالة والأسئلة وربما فكرة النضال وأشكاله، والذي يمكن أن يراه البعض هنا مباشراً وخطابياً، لكنه نبض إنساني وعاطفي موغل في الروح والمكان والأشخاص، موغل في الحياة، محرضاً على السؤال والذهاب بعيداً في تلك الإشكالات التي يطرحها غنام غنام علينا عبر ساعة وعشرين دقيقة من الزمن في تلك الرحلة العصية على النسيان والتي يشدنا إليه وإليها تلك السلاسة في الأداء والبساطة والتحول والانتقال وبناء العلاقة مع المكان والجمهور.

مونودراما "بأم عيني" ببساطة هي حكاية الأماكن والرحلة في حياة عاشها غنام وجعلنا نشاركه "بأم أعيننا" وأرواحنا كل ذلك. إنه يروي ويروي ولا يكف عن ذلك، يحشد كما كبيراً من الأمكنة والأسئلة والأرواح والتاريخ والجغرافيا والسياسة بطبيعة الحال، ليسأل بحرقة "أين الاحتلال، أين الإسرائيلي؟"، والأهم أين نحن "عرب الخارج" من كل ما يحدث هناك في فلسطين.