مجيد مجيدي: تشبثنا بهويتنا المحليَّة فنقلنا أفلامنا إلى العالميَّة

ثقافة 2024/07/01
...

  علي حمود الحسن

ابتكر أسلوباً بسيطاً ومتقشفاً، للخروج بسينما بلده إلى العالميَّة، بميزانيات تكاد لا تذكر، مقارنة بالإنتاج السينمائي العالمي، وبمواضيع غير محسوسة لبساطتها، وخلوها من كل مزوقات السينما التجارية، لكنها بالمقابل تمجّد الجوهر الإنساني بفطرته واتساقه مع الوجود، المخرج الإيراني مجيد مجيدي المولود في طهران، لأسرة من الطبقة الوسطى عام 1959، أحبَّ السينما والمسرح وتخرج في معهد الفنون الجميلة، بدأ حياته المهنيَّة ممثلا، فظهر بطلا في فيلم محسن مخلمباف {المقاطعة} (1985)، تأثر بالواقعية الإيطالية كما أبناء جيله من السينمائيين، إلا أنه كيَّفها وفقاً لخصوصية بلده، معظم أفلامه تتخذ من الطفولة وثيمات إنسانية أخرى مرتكزاً لها، معتمداً أسلوباً سردياً بسيطاً ضاجاً بالعاطفة والشعرية، متناولا مواضيع إنسانية وقضايا اجتماعية وفقاً لرؤية رمزية شفيفة.
مجيدي الذي احترف المسرح ووله به، لكن خشبته ضاقت بأحلامه، اتجه إلى السينما فأخرج أفلاماً شكلت علامة فارقة في تاريخ السينما الإيرانية والعالمية، حصدت عشرات الجوائز في المهرجانات السينمائية الكبرى ونافست على الأوسكار، أبرزها: "أطفال الجنة"( 1997)، " باران "(2001)، و"محمد رسول الله"(2015)، وفيلمه الوثائقي المهم "عراة إلى هرت"(2002)، عن حياة اللاجئين الأفغان ومعاناتهم، فضلاً عن أفلامه الأخرى على شاكلة "خورشيد" (2020)، و"صبغة الله"(1999).. التقيتُ هذا المخرج الكبير الذي اقتطع من وقته الثمين أكثر من ساعتين في مكتبه وسط طهران برفقة المترجمة الإيرانية القديرة السيدة سنا ناظر التي أسهمت في ترتيب هذا اللقاء:


 يقول سانت اكزوبري الروائي والطيار الفرنسي: إن البيت الأول هو الوطن الأول.. هل ألقت طفولتك بظلالها على أفلامك؟

- نعم، غالباً ما يكون لذكرياتنا الأولى وما انفعلنا به في طفولتنا أثر في ما ننجز. ففي طفولتي أحببت المسرح كثيراً، وكانت مشاهدة الأفلام مع الأقران متعة أخرى، خصوصاً في الفتوة أقصد في عمر الـ ( 12 - 14) عاماً، وهذا ما حسم خياراتي في الدخول إلى معهد الفنون الجميلة.


   إلى أي سينما كنتَ تذهب في طفولتك؟ وما هي الأفلام التي تفضلها؟

- ربما من حسن حظي أن هنالك صالة سينما شعبية قريبة جداً من منزلي، يومئذ كنا فتياناً نعشق الفنون عموماً والسينما خصوصاً، فكنا نرتادها لنشاهد فيلمين، إذ كانت هذه الدار تعرض فيلمين بدلاً من واحد بـ "التذكرة" نفسها.  


 ما سرّ اختيار أبطال أفلامك من الأطفال غير المحترفين، الذين نجحتَ في إدارتهم، لتخرج لنا كل هذه الروائع (أبناء السماء، باران، خورشيد، صبغة الله.. الخ)؟

- لا أخفي عليك أن طفولتي وفتوتي أثرتا كثيراً في تكويني، إذ كنت أرصد أطفال الشوارع والمشردين، وأتساءل أي حياة يعيشون، وكذلك فترة الفتوة هي بدايات تشكيل شخصية الإنسان، ما جعل هذا الموضوع هاجساً لي، طبعاً ليست كل أفلامي أبطالها أطفال، إنما أنا أتعامل مع الطفل غير المحترف واستعمل تقنيات إدارته من خلال شحنه بالثقة في النفس وزرع التحدي في داخله، وقد نجحت في ذلك وكانوا مبهرين ومؤثرين.


  سؤالٌ قد يبدو فيه ترفٌ، هل تتبعتَ مصائر أبطالك من الأطفال الموهوبين؟

- نعم استطعنا اكتشاف مواهب كثيرة، خصوصاً في فيلم "خورشيد" (أبناء الشمس)، إذ كان بطل الفيلم من أطفال الشوارع المشاكسين، وكان كل من يعرفه يعاني منه، خصوصاً أسرته، لكني وجدته يمتلك روحاً شفافة وموهبة واعدة بالتمثيل، فهذا الشاب المدعو روح الله زماني(جسد شخصية علي) تغيرت حياته إلى الأفضل، هو وزميلته اللاجئة الأفغانية شاميلا شيرزاد، إذ حصلا على جائزة أفضل ممثلين شابين في مهرجان البندقية، وتحولا إلى ممثلين لديهما أفلام ومسلسلات، لدينا تجربة غنية في التعامل مع الأطفال الأفغان في فيلم "المطر" (ياران)،  فهؤلاء يعيشون حياة صعبة جداً وفقراً مدقعاً، لكن أبطال الفيلم تغيروا إلى الأفضل، إذ نجحنا في صنع إنسان، والمفرح أن أبطال الفيلم أكملوا دراستهم وهم يعيشون الحياة بأفضل معانيها.


  معظم الأفلام الإيرانية بعد الثورة الإسلامية أنتجت بميزانية بسيطة وممثلين غير محترفين، هل استلهم صناع السينما في إيران تجربة الواقعيَّة الإيطالية أم أن هنالك أسلوباً خاصاً بها؟ 

- أستطيع القول نعم، فأنا وأبناء جيلي من صناع السينما الذين شحنت الثورة العظيمة آمالنا بتغير مفصلي، تأثرنا وأحببنا السينما الإيطالية من خلال ما أطلق عليه "المدرسة الواقعية الايطالية الجديدة" التي اجترحت أساليب عملية للخروج بالسينما من معاييرها التقليدية، حيث انتقلت الكاميرا إلى الشوارع لتركز على وجوه الناس ومعالم المدينة، لتحولها أفلاماً، نحن حاولنا تطبيقها، ولكن وفقاً لهويتنا وثقافتنا، إذ كيفناها وفقاً لمفاهيمنا، فمثلاً في فيلم "سارق الدراجة" للمخرج الإيطالي دي سيكا عندما يضيق الحال ببطله العامل الذي يعتمد على دراجته المسروقة في عيشه، يضطر إلى سرقة دراجة من الشارع كي لا يطرد من عمله، بينما لا يسرق علي بطل فيلم "أطفال السماء" الحذاء من مشجب أحذية المصلين، لأن لديه عزة نفس وعقيدة، وإن كان محتاجاً، وهذا ما أقصده من تكييف مدرسة الواقعية الإيطالية والتأثر بها وفقاً لثقافتنا وحاضنتنا.


  تباينت آراء النقاد وصناع السينما في الغرب والشرق في تفسير ظاهرة نجاح الأفلام الإيرانية وتأثيرها في الجمهور أو حضورها الظافر في المهرجانات العالمية، ترى ما سر ذلك.. خصوصاً وهي خالية من مطيبات هوليوود وبوليوود؟

-علينا التسليم أن الفن في كل بلد، هو نتاج تاريخ وثقافة، وثقافة بلادنا عريقة، ويمكن القول عنها أنها ثقافة شعرية فلسفية، وهي حافلة بأسماء شعراء عظام على مدى تاريخنا الطويل منهم سعدي الشيرازي وحافظ والخيام، فليس غريباً أن تجد أغلب أفلامنا فيها روح الشعر الممزوج بالأدب والفلسفة، وهذا ما تجده في أفلام كياروستمي ومخلمباف وداريوش مهرجوئي وأنا وغيرنا كثير.

  هل واصل صناع السينما بعد الثورة الإيرانية عام1979 تجربة سينمائيين إيرانيين قدموا سينما مختلفة إلى حد ما لا سيما جماعة " الموجة الجديدة" ام هنالك قطيعة مع  من سبق؟

- أكيد استمرت هذه الموجة المؤثرة في تاريخ السينما الإيرانية، فثمة مخرجون على شاكلة بهرام  بيضائي، وداريوش مهرجوئي وبارفيز كيمائي، قدموا أفلاماً قبل الثورة وبعدها وتحولوا إلى ملهمين ومدارس تدرس للأجيال، كذلك كياروستمي كانت لديه أفلام وتحول إلى واحد من أعلام السينما، والمخرج الفريد شهيد سالاس الذي كان مبتدئاً قبل الثورة، هو من أتى بالسينما الحديثة وناضل كثيراً من أجل خلق تيار سينمائي إيراني مختلف، ومعظم هؤلاء يعملون حتى وقتنا الحاضر، وعلينا ألا ننسى، أن كل ثورة تأتي معها بطاقات وأفكار جديدة، وهذا لا ينطبق على السينما حسب، إنما في كل روافد الثقافة من أدب وفن، إذ حصلت تغيرات جذرية في مفهوم الثقافة أدباً وفناً، وقدم الشباب الذين جاؤوا مع الثورة رؤية جديدة ومتقدمة، فكانوا ملهمين للأجيال الجديدة.


  هل استعملت التورية والترميز لتفادي الرقابة، وهذا يحيلني إلى بعض المخرجين ممن يصورون أفلامهم داخل إيران وحينما تصل أفلامهم إلى المهرجانات يقولون نحن تحايلنا على الرقابة، هل الرقابة على السينما بكل هذه الحدة؟

- أفلامي لم تتعرض إلى أي نوع من الرقابة، رغم تقاطعي مع السياسة، السياسة تتغير حسب المصالح، أنا لا أريد لأفلامي المواقف المتغيرة، أريدها باقية، لذا أنا سعيد بكون فيلمي "أبناء السماء" ما زال يشاهد من قبل الأجيال الجديدة، وهذا يؤكد ما قلته عن أن الأفلام يجب أن تنتج ليمتد تأثيرها لزمن طويل، هنالك قضية إشكالية في مفهوم الرقابة - وهذا ما نعاني منه في السينما الايرانية- فكما معلوم أن الفن يمثل هوية البلد وثقافته، فمثلاً هنالك مخرجون أنتجوا أفلامهم وشاركوا فيها في مهرجانات عالمية، من دون المرور على الرقابة، فمن الطبيعي أن تكون هنالك مساءلة لهم بعد عودتهم، على أية حال، الرقابة من وجهة نظري ليست تلك التي يفرضها الغرب على وفق معاييره، إنما هي المعايير التي تنبع وتنسجم مع ثقافتنا وعقيدتنا، واسمح لي أن أضرب لك مثلاً، من المعلوم أن العلاقات الحميمة طبيعية في أوروبا، إلا أنها في الموروث الثقافي الشرقي ممنوعة، وبذا لا يكون الرقيب هنا قامعاً، إنما يكون منسجماً مع تقاليده وأعرافه، هل تتصور أن بعض دول أوروبا  تسمح  لبعض الموتورين إهانة خاتم النبيين محمد (ص) متحدين الملايين من المسلمين، ثم يتحدثون عن الرقابة، هم لديهم ثقافتهم المختلفة ولا نقبل أن تطبق معاييرهم علينا، إنما رقباتنا هي تلك التي تنبع من ثقافتنا ومعتقداتنا، تصور أن عالمنا  يشهد الآن حرب إبادة جماعية علنية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، والموقف الرسمي في الغرب  متواطئ ولا يريد لأحد أن يعبر عن إدانته لهذا الجرم المتوحش، وإن أبدى أحدهم تضامناً مع الضحية أو إدانة للمعتدي، فسيتعرض إلى المساءلة والطرد من الوظيفة وربما أكثر، نعم هنالك مشكلات في بلداننا، ولكن ليس الغرب من يفرض علينا الحلول أو نوعية التعامل معها.


  على الرغم من المصاعب التي واجهت رائعتكم " محمد رسول الله" قبل الإنتاج وبعده التي وصلت في بعض البلدان الإسلامية إلى منع عرضه بل وتشويه خطابه الذي بني على التقارب بين الأديان، هل أنت راضٍ على تسويقه وهل حقق النجاح المنشود؟

- قدمت السينما أفلاماً عن الأنبياء، على مدى أكثر من 120 عاماً، إذ أنتجت أكثر من 380 فيلماً عن السيد المسيح (ع)،  وما يزيد على (40) فيلماً استلهمت سيرة بوذا، بينما قدمت السينما العالمية ما بين 60  إلى  70 فيلماً عن النبي موسى (ع)، أما سيرة خاتم الأنبياء محمد (ص) والذي يتبعه مليارين من البشر، فلم ينتج عنها سوى فيلمين، الأول فيلم "الرسالة" للمخرج القدير مصطفى العقاد، والثاني هو فيلمي " محمد رسول الله" الذي يتحدث عن شباب الرسول(ص) وعرض في  الصين والهند وكندا، وبعض الدول العربية والأوروبية، لكنه  مُنع في الكثير منها،  بل حتى لاحقوا تسويقه ومنعوا صفقات شراء كادت أن تتم، وهذا أيضاً حصل لفيلم "الرسالة"، للأسف تمت محاربة فيلمي، على الرغم من  دعوتي للأزهر والمؤسسات الدينية الأخرى لمشاهدته ومناقشة ما جاء فيه، لكني واجهت رفضاً قاطعاً، علماً أن الأحداث حصلت قبل البعثة، وقتها لم يكن هنالك شيعة وسنة، وقد اعتمدت مراجع معظمها سنيَّة، فالغاية هي التقارب بين المذاهب ونشر السيرة العطرة لرسولنا الأكرم، وقد بذلنا جهداً ومالاً ليكون الفيلم لائقاً بسيرة الرسول، إذ تم إنشاء مدينة مكة بشكل كامل وبأدق تفاصيلها، إذ شيدها المصمم الكرواتي ميلجن كركا كلوكوفيتش، وصور الفيلم مدير التصوير الإيطالي الأوسكاري فيتوريو ستورارو، فضلاً عن فريق متخصص بالمكياج وتصوير المعارك، وقد خصصت سنتين لتسويق الفيلم، وتم عرضه  في الصين والهند وأوروبا، وقد نال إعجاب الجمهور، وعندما يتم التعاقد على شراء حقوق عرض الفيلم ينتهي الاتفاق بفعل فاعل، إذ لعب المال وعلاقات بعض الدول التي أصدر علماؤها فتوى بتحريم الفيلم  دوراً في منع انتشاره، حتى إنني قلت لقد ظلم الرسول (ص) من أبناء أمته مرتين، وها أنت ترى الآن أحداث غزة وكيف سارع البعض إلى مد يد العون للقتلة، لكني أملك الأمل بأن الفيلم سيسوق وسيشاهده الجمهور ويظل خالداً، لأني أردته بمستوى السيرة العطرة لرسولنا 

الأكرم(ص).


  نظل في أجواء تحفتكم البصرية "محمد رسول الله"   ولاحظت أن ثمة اسقاطاً حاداً للتاريخ على الحاضر، ما جعل البعض يؤوله سياسيا،ً وهذا لم نجده في فيلم "الرسالة"؟ 

- مع احترامي وحبي الكبير للمخرج مصطفى العقاد، لكنه لم يروِ الحقائق كلها في فيلمه الشهير، لا سيما حروبه مع اليهود، ربما كي يضمن نجاحه، وعلى الرغم من تسويق فيلم "الرسالة" في العالم بشكل جيد، لكنه منع في بلدان مثل السعودية ومصر ودول عربية أخرى، على العكس من فيلمنا ركزنا على دور اليهود الخبيث بالتحالف مع الأرستقراطية القريشية ومحاولاتهم من خلال الأموال والدسائس اغتيال الرسول والقضاء على الرسالة المباركة، فكأنما التاريخ يعيد نفسه.


 هل شاهدتَ أفلاماً عراقيَّة، وماذا عن فكرة تأسيس أكاديمية سينمائية في العراق؟

- لم أشاهد أفلاماً كثيرة، لكني عندما زرت العراق مرات عديدة، شاهدتُ شباباً رائعين لديهم وعي سينمائي جيد، وأسعدني كثيراً أنهم يعرفون أفلامي، لدى صناع السينما في بلدكم فرصة ذهبية لينتجوا أفلاماً تسجل الأحداث الجسام التي مر بها هذا الشعب الطيب، أيعقل أن تكون هنالك مجزرة مثل "سبايكر" لم توثق سينمائياً، كل قصة من أيام الحروب التي مر بها العراق هي مشروع فيلم، أعتقد 

أن صناع السينما يفتقدون وجهة النظر المبتكرة لتناول قصص أفلامهم. 

لديّ مشروع تأسيس "أكاديمية للسينما" في العراق مهمتها تدريب الشباب تحت إشرافي، فأنا أحب العراق  والناس فيه.