شامة صغيرة

ثقافة 2024/07/02
...

 ناظم علاوي

كنت اطير بأجنحة غير مرئية، محلقاً في سماء ملونة. احتجت بنحو آلي إلى دورة مياه. الاشياء المتكررة توحي باجواء العمل. أشباح لامعة. مهام تمتد أمامي كصحراء شاسعة، اتصل بمعاوني، لإعداد جدول المدعوين، وقائمة البحوث، واطلق بعض الاستفسارات الغبية المغرورة. في لحظة خاطفة، رأيت حمرة قانية تتفتح كزهرة من الدم في بياض المرحاض. لحظات مرت، وكأن الزمن تجمد، قبل أن أدرك أن هذه الدماء سالت مني.
 "لقد تبولت دماً!"، هذا الهمس صار طيفا يلاحقني خلال ساعات العمل، ذهني محاط بهالة من القلق، أقرأ نتائج التحاليل لمرضاي، أواسيهم، في حين وساوسي تنهشني كأشباح ليلية. من يخفف عني؟
تحملت جسدي المثقل بالهواجس حتى نهاية اليوم، واختلقت عذراً لزوجتي:
- سأتأخر، لديّ عمل.
في مختبر الفحص، بين انابيب الاختبارات الزجاجية وأجهزة التحليل، قال صديقي بصوت مطمئن كأنه يقرأ تعويذة: قد يكون التهاباً بسيطاً، أو ربما بلورات "Oxazalat" لا تقلق سيزول قريباً إنه التهاب عابر.
صرخت بعصبية، كأنني أحاول تسخين كلماته: يبدو أنك نسيت أنني مختص بالتحليلات المرضية، لقد تبولت دماً، دماً خالصاً، لا مجرد إدرار ممزوج بالدماء.
تعامل مع انفعالي بجمود حجري، وعاد ليؤكد بأن الفحوصات لا تظهر مشكلة، حتى فحص (ESR) الذي يكشف خبايا الأمراض الخبيثة والمعقدة، كان طبيعيا وكأنه يسخر من مخاوفي.
مضى على زواجي خمس عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية أيام، وأبنائي ما زالوا صغارا. ماذا لو انتهى مشواري الحياتي الآن؟ ماذا سيفعلون؟ سؤال ظل يطاردني بالحاح أشل حواسي.
في عيادة الدكتور، استلقيت على السرير البارد لإجراء فحص السونار، وقلبي يكاد ينخلع رعباً يمتطيه كشيطانة هاربة من قاتليها. عيناي تتشبثان بوجه الطبيب، تحاولان استنطاق أي تلميح يحاول إخفاءه. ثم انشق صوته كمعول يخترق أذني ويكسر حجب رأسي ووساوسي:
- إنها شامة صغيرة.
- ماذا.. أتقصد ورم؟ سألته بصوت مرتعش فضح ارتباكي.
- اذهب للطبيب، هو يخبرك.
خرجت من عند الطبيب المختص، على أن احضر عند الساعة الثامنة صباحا، لاستئصال الورم المتجذر في المثانة، كما كشفه فحص السونار.
***
نذرتُ أن أنحر جملاً إن صدقت رؤيا دعاء، ابنة جارنا الحاج بشار، الأربعينية، المصابة بالتوحد. يئس والديها من تزويجها، فكانت كظل يتلاشى في ضوء الفجر. منذ أن لامستها صاعقة البرق في شارع المحلة، عند عودتها من المدرسة، لم يُسمع لها صوت إلا في الصلاة أو عند التهليل والتسبيح، كأن صوتها وُهب للسماء وحدها، لا تترك أيام الاثنين والخميس وأشهر رجب وشعبان ورمضان من دون صيام، حتى بدت كمن يصوم الزمان كله، وحين تتمزق شرنقة صمتها، وتنساب كلماتها كالنور في العتمة، يهتز الحي كأنه على حافة زلزال.
تتجه الأنظار نحوها، والقلوب تترنح بين القلق والخوف، كأنها تواجه عاصفة خفية. الألسنة تتلوى الحوقلة والبسملة:
- يا رب سلم، يا رب سلم
اذكر مرة، انطفأ صوتها، استمر ليومين. خيّم الصمت، كعباءة ثقيلة تخفي تحتها همس الزمن. أعين الجميع شاخصة تنتظر شفق النطق. ليعود ويكسر جدرانه بقنبلة من الكلمات: سالم، ابن نازية داية الحي، سينجو من موت محقق، لم يمضِ الأسبوع حتى تسللت الينا اخبار سقوط سيارته من جسر الخصور، وكاد يغرق لولا أن أنقذته
الأيادي.
في قلب المحلة، انصهرت الأحاديث والتوقعات مع سكون دعاء الصائم عن الكلام ليوم كامل. تتبعت الأعين خطواتها بترقب، وكأنها تحمل سرًا مقدسًا بين شفتيها المغلقتين. مع حلول المساء، جاءت أمها وهي تشع بنور البشرى، تحمل في جعبتها رؤيا شهدتها دعاء في عالم الأحلام. أخبرتني بأنني وزوجي مدعوون لصوم زكريا، الذي يتناغم مع الاثنين المقبل.
وأمام هذه النبوءة، انسابت إلى أرواحنا آمالاً جديدة، بأن بركة هذا الصوم ستفتح أبواب السماء لنرزق بالولد المنتظر.
***
في ساعة متأخرة من الليل، بعد اكمالي كافة الفحوصات اللازمة لإجراء العملية، عدتُ محملًا بهمومي وأوراق نهاية عمر غامض. كان الليل حالكًا، غاب فيه القمر والنجوم. استقبلتني زوجتي بوجه صبغته آلاف التساؤلات؟ قبل أن تنطق حاولت مداراة ارتباكي، قائلا:
- أين الأولاد؟
- نيام
- افتعلتُ سببا وأنا اتحاشى التقاء عينيّ بعينيها، ثم قلت:
- أنا تعبان، أريد أن أستحم، لأنام.
لمع من خلال النافذة خيط شعاع القمر، كأنه خيط حرير يعيدني بلطف إلى غرفة الأولاد. ما زلت أصارع حزناً يتغلغل في صدري، محاولاً إبقاء الوسن بعيداً عن عينيّ المثقلتين بالدموع. دموعي كانت اعترافاً صامتاً بعجزي وقلقي الذي يمزق روحي. ماذا سيفعلون من دوني؟
موت الأب، كسر للسند الذي يحمي ظهر الأبناء، وكشفٌ وتعري لسقف البيت الذي يقيهم غلائل الزمن. في هذا الليل الممزوج بالقلق، همست لنفسي:
- ما زالوا صغاراً.
استلقيت على ظهري بعد أن طبعت قبلة حنونة على جبين أولادي، شعرت بدفء جباههم يغمر شفتي، كأنني أرتشف من براءتهم قوة خفية. تلمظت ملوحة جباههم، ابتلعتها كأنها إكسير حياة، استنشقت روائحهم التي تحمل عبق الطفولة والأمان. أداري دمعة عاصية تصارع محجريها، تخشى الانفلات.
ضوء القمر الخجول يتسلل إلى الغرفة، يلامس وجهي مرة، ثم يتهادى ليضيء وجه ابني الصغير تارة أخرى، كلما تحركت الستارة برقة نسيم الليل.
في هذا السكون العميق، سعلتْ ابنتي الصغيرة، ففزعتُ لها، وجلستُ عند رأسها، أمسد بيدي شعرها الحريري، باحثًا عن الأمان الذي أحتاجه أكثر منها.
أناملها الصغيرة تتشبث بأصابعي، تمدّني بالطمأنينة. شعرت أنفاسها الهادئة تملأ الغرفة، تهدهد قلبي المضطرب وتعيد لي بعض السكينة. ضوء القمر يتناغم مع ضربات قلبي، ينسج حولنا عالماً من السحر والحنان، حيث تختلط مخاوفي ببراءة أبنائي، وتتحول كل لمسة إلى وعد بمستقبل مشرق.
حملني قلقي إلى ليلة بعيدة، في عمق الزمان والمكان، حين نام أبي ولم يستيقظ. أيقظني عمي، بصوت ملؤه الحزن:
- انهض، بن.
 قمت من منامي أتمطى، سرت تجاه الحمام لأغسل وجهي استعدادًا للذهاب إلى المدرسة. لم أنتبه في البداية إلى أي شيء غير معتاد. حتى صدمتني تلك الوجوه الكالحة مع أصوات العويل والصراخ التي ارعبتني، تسمرتُ في مكاني، احسست بأن الجدران تضيق حولي، وانا عالق في كابوس لانهاية له. كل وجه رأيته يحمل جزءا من حقيقة لا أريد تصديقها من أين جاءت تلك العيون التي تمزقني مثل سهام حادة؟ وكأن الزمن توقف، وأنا غارق في دوامة من الغموض والرعب:
- أين أنا؟ حتى جاءني صوتٌ دافئٌ، رقيقٌ، أنقذني من رعبي.
- تعال، لا تخاف.
احتضنتني أختي الكبرى بقوة، تساؤلاتٌ ثقيلةٌ أثقلت عقلي وشاخت بها روحي، أجلستني على حجرها. جسدي كله يرتعش، لم أتجرأ أن أسألها، حتى صفعني مشهد أمي الغريب، جعلني أصرخ، صدرها مكشوفا، خصلات شعرها الأبيض تناثرت منفوشةً، وهي تضرب صدرها وخدها بيديها، وتبكي بحرقة، صرخاتها تمزق قلبي، أراقب بصدمة ما يحدث أمامي. في محاولة أن أفهم، وحين اقتربت بدأت الصورة تتضح أمامي بشكلٍ أكبر، أمي تحاول ابعاد الرجال عن حمل قطعة القماش البيضاء التي تغطي شيئًا ما امامها.. شيءٌ اعتقدت في البداية أنه مجرد حقيقة من حلم مزعج.
بعد مرور أيام على وفاة أبي، الليالي تمضي ببطء محملة بالحزن، كل ليلة تبدأ بصورة عمود بيت انكسر، أمي تبدو متعبة جدًا، وجهها يعكس الألم الذي يعتصر قلبها، عشنا في عالم مظلم، وهي تحاول بكل قوتها اخفاء حزنها وألمها عنا، لكنني أعرف أنها تعاني كثيرًا. يفضحها نحيبها في الظلام الذي يحيط بنا.
لهذا أحاول قدر ما استطيع أن أكون قويًا امام الأولاد، ليالي السهر تتوالى، وأنا أحاول جاهدًا أن أبقي عيني مفتوحتين، خائفًا مما قد يحمله لي النوم؟ زوجتي تقف جواري ملاذي الوحيد في عالم مضطرب، كمن يحمل شمعة صغيرة لتنير ظلمات قلبي المظلم. نظرتُ إلى عينيها، استمد منها الأمل والإيمان، كالعهد بيننا، عهد بالتصدي معا لهذا التحدي وعدم الانكسار. عينيها ترسل كلمات صامتة اسمع ترددها في أذني كصوت يأتي من السماء يذكرني بأن الله معنا وأنه لن يتركنا. في هذه اللحظة الصعبة، أدركتُ معنى الصمت الذي يحمل في طياته الكثير من الكلام، وكيف للعتمة أن تكون أقوى من النور.
رن المحمول، تجمّد معه الزمان من حولي، والحياة بأسرارها وألغازها توقفت، ساد الصمت في البيت، لم يكن هناك سوى صوت الهاتف ونبضات قلبي التي تتعثر بدموع أحبائي بعجالة وتردد اجبت:
- ألو.. تفضل دكتور. جاء صوته هادئا من دون أي اعذار، تقافزت أدعية قلبي، وغاصت أنفاسي، ليصلني صوته هزيلا:
- إنه السرطان. سقطت زوجتي مغشياً عليها، وأصبح البيت مأتماً مسبقاً لموت مؤجل.
القمر يميل نحو المغيب، العتمة زادت من قلقلي وخوفي، لم أستطع كتمان دموعي.. وأنا اصارع النوم خشية ألا استيقظ!