ثائر هادي جبارة: رَهط الدراما {تُورجيّات} الأداء المُلفق

ثقافة 2024/07/03
...

  د. محمد أبو خضير

في تجربته الأخيرة يخطو الفنان ثائر هادي جبارة خطوة لافتة في التجريب المسرحي وعماد هذا الامتياز ما يمكن تسميته بـ {التعدي الفضائي}، فثمة ثلاثة فضاءات تخص {الاداء} هي: 

فضاء ما قبل الاداء، ويخص {البوروكرام} لنتلمس دراماتورجية تذهب إلى تأكيد امتياز {الاداء} فنص {البوركرام} استهلال لاداء الدرامورتجية تخص نص ما قبل العرض فنص {البروكرام} لا يحمل مسميات مثل {عرض/ مؤلف/ فرقة/ عنوان/ ممثل/ سينوغرافيا/ بناية مسرح} لنتوافر على مداليل بديلة كـ {اتحاد الادباء، الفنان ثائر هادي جبارة، الناقد زهير الجبوري، بحث ادائي، عنوان: براءة الحيوان في الادب العربي، قاعة (ود)، إحالة لنصوص ست شعراء}.

وتبدو "دراماتورجية" ثائر بأداء فعلي يخص جهوده بالإنتاج ليتم زج فعالية مسرحية بمنهاج فصلي خاص باتحاد أدباء بابل وبالتشاور والشاعر انمار مردان والاتفاق مع دكتور باسم العسماوي صاحب قاعة (ود) على التنظيم والتجهيز والوسائط المستخدمة.

اما الفضاء الثاني "داخل الاداء": فقد اشتمل على تنصيف نصي قوامه بحث علمي يخص "براءة الحيوان في الأدب العربي" وفيه مجمل عناصر البحث من مقدمة وطرح ومناقشة وخاتمة ونتاج، وله مراجعه ومصادره وعنواناته المستلة من البحوث والكتب التي عاجت هذه الثيمة، ويقوم "الاداء" على تنصيف يخص طرح فكرة البحث "البراءة" وأخذ تلك الفكرة إلى التجسيد حيث تودع بنصوص شعرية لشعراء التحريض "موفق محمد/ كاظم الحجاج/ احمد مطر/ نجيب سرور" ونصان للشاعرة حنين محمد، وكزار حنتوش يتوسل بها المؤدي ثائر هادي جبارة ومدّ خطوط تجسير مع المعلومة التي ينتجها الباحث والناقد زهير الجبوري وهو على منصة التقديم.

ونجد أن عنوان الـ "وصلة" المدوّن في البوركرام "بحث ادائي" هو أقرب إلى مسميات تخص فن تشكيل مابعد الحداثة، ونقصد به "فن التقديم/ البروفونس" حيث المشاهدة او الفرجة العابرة لمشهد ادائي عابر، ويمكننا الذهاب إلى تسمية مجاورة لعنوان "بحث ادائي" ليصبح "فرجة ادائية" فنحن في بطانة فضاء بذاته وحضور متفرجين في لحظة فرجوية قائمة وقسط من الوقت..وتبدو لياقة جبارة في حالة من الثراء في نتاج اشواطه المسرحية التي تجاوزت الاربعة عقود لنتلمس فعالياته وخبرته لانتاج جملة "دراما تورجيات". 

  1 ـ (دراماتورجيا النص): وفيها التحرر من النص الادبي الدرامي و"تدريم" النص الذي يخص ما يسمى بـ "النثر العلمي" أو "البحث العلمي" حيث المسار الأفقي والرأسي لموضوعة البراءة ومتون الكتب والبحوث الخاصة به، هنا ثمّة تحرير يمكن تسميته بـ "سجن اللغة" حينما تنعتق المعلومة البحثية/ العلمية من "سجنها" اللغوي وترحيلها إلى فعل مسرحي أساسه الحجاج والتفاعل لينتهي النص "البحثي/ العلمي" إلى نص فيه فعالية "أدائية/ ممسرحة" يتناوب مع النص الشعري وصوره عبر تماساتها داخل خطوط البحث، ويراهن ثائر على منح النص العلمي طلقات درامية، وحمولة مجازية واستعارية وهي دالة حَمَلتَها اغلب عروضه السابقة، فمجمل نصوص حياتنا اليومية مؤهلة لدخول "تدريم" الفضاء المسرحي، نصوص الادب والفن والثقافة والاشهار والانثروبولوجيا والمقولات السياسية واللافتات السردية  والاعلانية وغيرها، وتنحل مجمل النصوص تلك بفعالية الدراماتورجية، وأخذ مسار الايقاع بفرجة "بحث أدائي" نَسّقَ المناوبة، فَطرْح الفكرة البحثية متبوع بالوسيط الصوري بشاشة تلفازية تعرض صور ووثائق ومناظر حادثة فاجعة "سبايكر" وجملة علامات مساندة تخص الفاجعة مستقطرة مع النصوص الشعرية المصطفات، واشارات إلى "الماء/ الخواتم/ المحفظة المتهرئة/ القلادة/ صور حبيبات/ السلية/ الادعية..." مخلفات شهداء الحادثة. 

وتتجسد في بنية "الفرجة" دالات التباري بين النص/ البحث العلمي الجازم بحقائقة ومجازية صور النصوص الشعرية، فحقائق البحث لم تعد ملزمة بذاتها فلكل ذات حقائقها ومسوغاتها لتصبح محض "استعارات" والنص الشعري يظل مؤشراً إلى صور تحوز القضية وتشفرها، ما يعني غياب الحقيقة، ونسبتها شأن أي واقعة "سالفة".

وهناك مباراة أخرى قائمة بين الباحث زهير الجبوري والمؤدي ثائر هادي جبارة، فالباحث هو المتكلم الأوحد تجاه المتلقي بأعراف التقليد، ويناظر ذلك خاصية تكلم الذات "المؤدية" بمجمل محمولاتها من شتات النصوص. ولعل موضوعة "الحقيقة" تُعدُ واحدة من أكثر الثيمات تمركزا في عروض جبارة إذ يشغل نسق "الفقد" مساحة غالبة في مجمل عروضه، فهو لا يقرّ بحقيقة ما الاّ بتقشيرها والتوغل بتلافيفها وأحداثها لدعوة المتلقي في تقلب وتفعيل حقائقه الساكنة، فالحقيقة لديه لها اشواط للقبول واشواط  اخرى لاحقة للمناقشة والاقتراح، من هنا فالنص الشعري كما النص البحثي/ العلمي لهما حقائقهما. 

والحقيقة تبدو من المشاعية حيث يمكن لكل ذات احتواءها في "البحث الادائي" تصويت ثنائي للحقيقة، إذ يأخذ الباحث/ الناقد/ المحاضر زهير الجبوري بطرح حقائق تعنى بـ "البراءة" فيما يقدم/ يؤدي الفنان جبارة حقائقه الشعرية الاستعارية المؤسلبة. 

إن الجهد بمسرحة النص العلمي "براءة الحيوان.." يأخذ ابعاداً تتجسد بغرز جرعات درامية واستعارية لنص هو بـ "درجة صفر" من الاستعارة، إلاّ أن استدعاء هذا النص إلى بطانة المسرح يكفل بمنحه سمة الاستعارة والتخييل، وهو ناجز ومجسد لمفهوم "الدرامتورجية" بتفعيلها لنصوص غير أدبية لها ممكناتها بالتجسيد والتمسرح. 

 2 ـ (دراماتورجية الممثل/ المؤدي):

توكل مهمة إلقاء البحث "براءة الحيوان في الادب العربي" إلى الصديق الناقد زهير الجبوري مستعرضا تلك الثيمة تاريخيا، وهو حضور تقليدي لمعرفة المتلقي بسمة الجبوري بوصفه الناقد أو المقدم للكثير من الأمسيات والاصبوحبات في فضاءات الاتحاد، غير انَّ "البحث الادائي" يمنح الجبوري مهمة "الاداء" بإسناد دور المعقب والمحاور مع المتفرجين، كذلك تعقيب مقولات النصوص الشعرية حيث الازدواج الادائي بين دورين "محاضر/ مؤدي" لنتلمس وعي الدور وآخر للأداء، لا للمحاضر من خلال علامات يبثها الجبوري لتعزيز حالة التمسرح، والجمع ببن النص البحثي والآخر "الادائي" عبر الصوت والحركة والانتقال من المنصة إلى الفضاء الادائي. 

كما اسند ثائر إلى ذاته دور التواصل والنص البحثي بتجسيدات وحركات وعلامات تخص الواقعة "سبايكر"، لكنْ ثمّة حالة من الّلبس حملها اسلوب جبارة تخص حالة التبنّي الحسي للشحنات العاطفية، وهو ما يتقاطع ومفهوم "الاداء" باعتباره محض "لعبة" مسرحية تعرض ولا تتبنى. 

  3 ـ (دراماتورجيا الفضاء):

يثبت تاريخ التجريب المسرحي في أخذ بعض الفضاءات والأمكنة صدفة للعرض المسرحي، وتُعد قاعات العرض لفنون التشكيل واحدة من أهم مواقع التجريب فاحتضان قاعة/ كاليري (ودّ) في مدينة الحلة فعالية "البحث الادائي" للفنان جبارة والناقد الجبوري، وهو فضاء ثقافي له محمولاته من الذاكرة الجمالية والفنية وتنوع الاتجاهات والمدارس متمثلة في الّلوحات الرسموية وتنوعها الأسلوبي وتحديد هندسة الأداء والأنفتاح على "المتفرجين" وقرب المسافة وطبيعة المساحات وتماساتها والفعل الأدائي كما تطرح نظرية "البروكسيما" أو "البونية" في تحديد العلاقة بين الباث والمستقبل وحميمة التواصل، فكانت المسافة من القرب والتماس ما يعني تشارك طرفي الفرجة. 

  4 ـ (دراماتورجية الجمهور): 

يحرص جبارة على فتح تواصل مباشر وصريح مع المتلقي بالتخاطب والتواصل المباشر معه، وفي عمله هذا "بحث ادئي/ براءة الحيوان في الأدب العربي" ثمّة ومضة ذات فطنة تخص الاستقبال والتواصل، فالمحاضرة تلقى من قبل ذات المحاضر/ الناقد الجبوري لجمهور له خصوصيته الثقافية وذاكرته الجمعية والوطنية والفردية المشتركة، ما يخلق نوعا من التعادلية بين المطروح من الاداء وخزانة المتفرج تجاه فاجعة "سبابكر" فمحمولات المؤدين "جبارة/ الجبوري" لهما ذات الشعرية التي يدخرها المتفرج وهنا ثمّة قصدية بانتقاء جمهور بعينه وفي وحدة زمكانية خاصة، يضاف إلى ذلك فطنة توظيف "المحاضرة" وبنيتها في التراسل والتوصيل مع المتلقي، فهي تنتهي عادة في طرح الأسئلة والاستفسارات من قبل الحضور ليتم الرّد من ذات المحاضر، وهو توظيف بدرجة عالية من الادراك المنحى التجريب لنص له بنيته من جهة الرّد والمحاججة والجدل المعرفي لتعزيز روح "التدريم" وفعالية التشخيض لنص مغلق على ذاته التجنيسية. 

أما الفضاء الثالث: (مابعد الأداء/ العرض): فتجسده فعالية طرح الاسئلة والتعقيب صوب منتج الوصلة "الفرجوية" وجدل الأحاطة بالثيمة والموضوعة البحثية ومديات تحالف الإستعارة والمعلومة ، في الفن والعلم، نجد ان طرح الفنان جبارة والناقد الجبوري يصرحان بجدة ملحوظة بمنسوبها التجريبي، وهي فاصلة بين الـ "ما قبل" والـ "مابعد"، وتحول ملحوظ في مسار الجهد المسرحي للفنان ثائر هادي جبارة ونزعم أنه فاصلة مرنة بين عروضه السابقة والمعطى التجريبي.