فقرٌ وجوديّ

ثقافة 2024/07/03
...

أحمد عبد الحسين
لا أذكر أنّ فيلسوفاً تكلّم عن الفقر بأبلغ مما تكلّم عنه رينه حبشي، كتب ذلك الفيلسوف المغبون قليل الحظ: “شيئان هما الله والفقر لا يسعنا القول فيهما إلا ونحن نرتعد. الله لأنّ أغنى كلماتنا أفقر من أن تصلح له. والفقر لأن أهون كلماتنا أغنى من أن تصلح له. الله فوق ما نقول والفقير دون ما يمكن أن يقال”.

لا يُستطاع القول عن الفقر لأنّه أشبه بالعدم، وهو إلى السرّ والغياب أقرب. والكلام لا يكون إلا عن الموجود الحاضر المتعيّن، فإذا أردت أن يكون الفقر محلاً للكلام والمخاطبة فلا يتحقق ذلك إلا بإزاء الغنى وبشهادة منه، ولن يشهد لك أحد بفقرك ولن يجعلك أحدٌ شيئاً متعيّناً فيقول لك: أنت فقير، إلا إذا كان أغنى منك. وما صارت البشرية متعيّنة قابلة لأن تخاطَب وتكون محلاً للتلقّي وتكون قادرة على الإصغاء إلى النداء إلا لأنّ  الإنسان مركوز في فقر أصليّ قائم في صلب وجوده.

في الآية القرآنية “يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله” مخاطبةٌ وتعيينٌ بـ”أنتم” وجعلُ الناسِ “سوى” لله لكنه السوى الذي لا يقوم إلا بإزاء الله ومن قِبله. وفي صفحة الحقيقة فإن الكون كله فقرٌ محض، ولولا مخاطبة الله الغنيّ له لم يكن شيئاً مذكوراً. أما في الصفحة الترابية التي نحن فيها فثمت أغنياء هم فقراء وفقراء أغنياء، وورد أن يقول الداعي بلسان الكمّل: “أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟” أو يقول “كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقرٌ إليك؟”.

الفقر هنا هو حدّ الإنسانية، ونريد به الفقر المتجذر في أصل الخلقة لا الفقر العرفيّ الذي يعني عدم التملّك، لأنّ من يرى غناه في تملّكه وحيازته مسكوكات مادية يقف على شفا طغيان وتجاوز لهذا الحدّ الإنسانيّ وتوهّمٍ كبير بأنه، وقد صار مالكاً لملكٍ، معفى من شرط الفناء. أما الطغيان فواضح في الآية الجازمة “إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى”، وأما توهّم الخلود وعدم الفناء فتجده في “يحسب أن ماله أخلده”.

وهمٌ عميم يغرق به مقتني المسكوكات يتمثل في خلطه بين التملّك والكينونة على ما اشار إليه جبريال مارسيل حين قال إن التملّك هو نفاد صبر الكينونة، وذلك حين يتأصل اللبس القائل “أنا أكثر كينونة لأني أكثر امتلاكاً”.

نسيان الفقر الأصليّ منذر بهجوم أوهام كهذه مؤدية إلى الطغيان ونسيان الفناء، وهو علّة كلّ تفاوت مؤدٍ إلى الاحتراب والصراع وصنوف هدر الكرامة الإنسانية. كأنما الفقر والاعتراف به أصلاً هو بداية الإنسان، أما الغنى ـ بمعنى التملّك ـ وما يستتبعه من طغيان فهو النهاية الماساوية لهذا الكائن الفقير الذي ينسى شرطه الإنسانيّ حين ينسى فقره.