تجربة تحليل قصيدة شعريَّة بواسطة الذكاء الاصطناعي

ثقافة 2024/07/03
...






د. ضياء خضير 




ليلة البارحة أرسل لي الصديق الشاعر جواد الحطاب هذه القصيدة، قائلاً:

“قبل النشر، أحببت إطلاعك عليها.. تقديراً ومحبة..”



- القصيدة


تمرين على الوطن 

(ناشدتك الشعر.. هلا رددت القصائد عني)

................ جواد الحطّاب


يعودُ الجنود من الحرب بلا أطراف..

تعود الخرائط منها.. بلا مدن.!


لا بأس أنْ تفقدَ السماء كويكباً..

لا بأس أنْ تخسرَ الفراشة ضوءَ الأجنحة


لكنهن سيقان

لكنهن مدن..


يفقد البيت بابا

ثمّة السياج

تفقد النافذة زجاجاً

ماذا عن الإطار؟


يؤوّل الجندي فراغ يديه بـ(المتحف)

بماذا تؤوّل الخرائط فراغ المدن؟

........................


أحفادٌ

يمرّرون أيديهم

على ظهور الليل

فتقشعر الخارطة”..

...



فكتبت له بعد اطلاعٍ أولي عليها هذه الكلمات:

“شكراً لثقتك وكرم روحك وذاكرتك النبيلة صديقي العزيز.

سيطوى كل ذلك إنْ شاء الله ويقوم العراق على رجليه في كل مدنه قوياً معافى.

تبقى كلماتك، كما هي دائماً، عصارة فكرٍ وتجربة وحرصاً على الاقتصاد في اللغة وضبط الدلالة والمنطق الذي يوظف الخيال ويوقظه بكل ما يحويه من طاقة مجازيَّة لصالحه حتى في هذا النوع من التراجيديا المتأخرة قليلاً عن زمن الفعل الذي تصفه.

وانتهت المراسلة بهذا الشكل الذي شكرني فيه الشاعر على عادته قائلاً إنَّه أحبّ ما كتبت.

في الصباح الباكر طالعتني صورة القصيدة عندما فتحت التلفون على عادتي السيئة في النبش والدقّ المستمر على شاشته الصغيرة لمعرفة الأخبار العامة والخاصة، ورؤية ما في غواية الميديا الحديثة من جدٍّ وهزلٍ لا يكادان ينتهيان، فبدا لي، ولم أكن قد تخلصت تمامًا من آثار النوم، أنْ أسأل الذكاء الاصطناعي (artificial intelligence) الموجودة ايقونتُه على هذه الشاشة حول إمكانيَّة معاونتي في تحليل نص القصيدة. وقد كان ابني (علي) قد تحدث معي خلال وجودي معه في مدينة هيوستن الأميركيَّة الشهرَ الماضي عن شيء من تاريخ هذا الذكاء وكيفيَّة استخدامه والإفادة منه (وابني علي، بالمناسبة، واحدٌ من المختصين بهذا الذكاء، وعمل دكتواره بجامعة إلينوي الأميركيَّة University of Illinois حول استخدام هذا الذكاء في ضوء بعض المعادلات الرياضيَّة قبل نحو خمسة عشر عاماً، وهو يعمل منذ أكثر من عشر سنوات على رأس مجموعة من المبرمجين في شركة مايكروسوفت الأميركيَّة التي زاد فيها استخدام هذا الذكاء بشكلٍ واضحٍ خلال السنوات الأخيرة، كما يقول). علمًا بأنَّ أمر استخدام هذا الذكاء أصبح هذه الأيام ميسوراً ومتاحاً بالنسبة للمختصين وغير المختصين، ويمكن الدخول عليه بسهولة في العربيَّة كما في الإنكليزيَّة، وغيرهما من اللغات المتاحة فيه.

المهم أنني وضعت سؤالي عن إمكانيَّة مساعدتي في تحليل هذا النص الشعري، بعد أنْ أخفيت اسم صاحبه، بين يدي هذا الذكاء، مقدرًا أنَّ من الصعب الإجابةَ على مثل هذا النوع من الأسئلة ذات الطبيعة الاختصاصيَّة والمهنيَّة الدقيقة؛ ولكن المفاجأة كانت هذا الجواب الذي جاءني في ثوانٍ قليلة:

نص جواب الذكاء الاصطناعي:

“لتحليل هذه القصيدة، يمكننا النظر في العديد من الجوانب مثل الموضوع الرئيسي، الصور الشعريَّة، اللغة، والأسلوب. سنبدأ بتحليل النص وفقاً لهذه الجوانب:

الموضوع الرئيسي:

القصيدة تتناول موضوع الحرب وآثارها المدمرة على الجنود والمدن. الشاعر يبرز الفقدان والتدمير الذي تخلفه الحرب، ليس فقط على الأفراد بل على المجتمع بأكمله والبِنْية التحتيَّة للمدن.

الصور الشعريَّة:

القصيدة غنيَّة بالصور الشعريَّة التي تعبر عن الفقدان والتدمير:

1 - الجنود بلا أطراف والخرائط بلا مدن: هذه الصور تعكسُ الفقدان الجسدي والدمار الجغرافي. الجندي الذي يعود من الحرب بلا أطراف يمثل الخسارة البشريَّة، بينما الخرائط التي تعود بلا مدن تمثل الخراب العمراني.

2 - الفراشة التي تخسر ضوء الأجنحة: هذه الصورة تعبر عن فقدان الجمال والأمل، إذ إنَّ الفراشة غالباً ما ترمز للجمال والرقة.

3 - البيت الذي يفقد بابه والنافذة التي تفقد زجاجها: هذه الصور توضح الخسارة الجزئيَّة التي يمكن أنْ تحدث للبيوت والمباني، ما يجعلها غير مكتملة أو غير آمنة.

اللغة والأسلوب:

اللغة في القصيدة مباشرة وتستخدم التكرار والتباين لتوضيح الفكرة الرئيسيَّة. الشاعر يستخدم أسلوب الاستفهام في بعض الأبيات ليثير التفكير حول كيفيَّة تعويض هذه الخسائر الكبيرة، سواء بالنسبة للجنود أو المدن.

الدلالات والرمزيَّة:

1 - السيقان والمدن: السيقان تمثل الحركة والحياة، والمدن تمثل الحضارة والمجتمع. فقدان أي منهما يمثل توقف الحياة أو تدمير الحضارة.

2 - المتحف وفراغ اليدين: المتحف يمكن أنْ يكون رمزاً للحفاظ على الذكريات والتاريخ، في حين إنَّ فراغ اليدين يشير إلى الفقدان الشخصي الذي لا يمكن تعويضه بسهولة.

الخاتمة:

القصيدة تختتمُ بصور الأطفال الذين يمررون أيديهم على ظهور الليل، ما يجعل الخريطة تقشعر. هذه الصورة قد ترمز إلى الأجيال القادمة التي تحاول التعامل مع آثار الحرب واستعادة ما فقد.

تحليل شامل:

القصيدة تعبر عن مأساة الحرب وتأثيرها العميق والمستمر في الأفراد والمجتمعات. الشاعر يستخدم صوراً مؤثرة ولغة قويَّة لتسليط الضوء على الفقدان والدمار، ويثير التساؤلات حول كيفيَّة التعامل مع هذه الخسائر والتعافي منها. النصُّ يعكسُ إحساساً بالحزن والألم، لكنه يترك مجالاً للتأمل حول الأمل في المستقبل وإمكانيَّة إعادة البناء.

انتهى تحليل ناقد الذكاء الصناعي المجهول.!


والآن ما رأيكم في هذه التجربة؟، وفي ما قاله هذا الناقد الذكي حول القصيدة؟

وما الذي يميز تحليله؟ وماذا يمكن أنْ يحصل لو وضعتُ هذا التحليل بوصفه من نتاجي وتحليلي أو تأويلي الشخصي للنص؟

هذا الناقد العجيب فصّل كما ترون ما أجملتُ في التعليق السابق، ووضع لكل موضوع عنوانًا مناسبًا بطريقة أكاديميَّة متدرجة، وأتى على مجموعة من الجوانب الجماليَّة الخاصة بالقصيدة، آخذاً بنظر الاعتبار دلالاتها ومدى تعبير صورها عن واقع الحال لأولئك الجنود المقطوعي الأطراف، وحال بلدهم في إثر هذه الحرب، وكل حرب.

نعم، قال كل ذلك بشكلٍ واضحٍ، ولم يكد يهمل شيئاً، سواءٌ على صعيد اللغة والأسلوب، أو دلالة الرمز، وما يتصل بذلك من مقدمة وخاتمة، حسب الأصول الأكاديميَّة المتبعة في البحث.

والسؤال هو، مرة أخرى، هل سيعترض أحدٌ إذا ما نسبتُ هذا التحليل لنفسي؟، أم ستأتيني التعليقات الموافقة والمشجعة من كل جانب، مهنئة ومعبرةً عن الإعجاب.

وما الذي ينقصُ هذا التحليل والنقد، إذا كان فيه نقص؟ 

هل هو التحليل النصي المتعلق بالبِنْية السائدة على مستوى الصورة والأداء البلاغي والتشكيل اللغوي والنحوي في النص مأخوذاً بطريقة أكثر تحديدًا ودقة؟

هل هو، مثلاً، الرأيُ، أو الموقف الشخصي للناقد؟ أم أنَّ الذي ينقصُ هو “دفء الناقد البشري” كما يقول الشاعر جواد الحطاب لدى اطلاعه على إجابة الذكاء الاصطناعي حول قصيدته؟

وهل كان الشاعر سيقول ذلك حقًا لو أنه لم يعرف أنَّ هذا الناقد ليس بشريًا هذه المرة، خصوصاً أنَّ النقد الحديث يحاول في مجمل مقارباته الابتعاد عن العواطف البشريَّة، وأنْ يكون علمياً وموضوعياً بالقدر الممكن؟ 

غير أنَّ ذلك لا يمنع من القول إنَّ قراءة هذا النوع من النصوص التي يلعب فيها الخيال واللغة المراوغة دورًا مركزيًا في رسم الصورة وتحديد مستويات الدلالة، على نحوٍ يغيب فيه الوضوح أو يخفى عن العين الراصدة، تبقى بحاجة إلى ثقافة نقديَّة لا يمكن أنْ تتوفر في مثل هذه المقاربة (الصناعيَّة). فالعلامة اللغويَّة غير الواضحة وضوحاً كافياً هنا لا تحيل إلى علامة أكثر وضوحاً، على نحوٍ لا نستطيع فيه أنْ نقفَ عند نقطة دلالة واضحة. فحينما يقول النص مثلاً:

“يؤوّل الجندي فراغ يديه بـ(المتحف).. بماذا تؤوّل الخرائط فراغ المدن؟” 

فإننا لا نكاد نقف على شيء من هذه الدلالة على الرغم من أننا نعرف أنَّ الموضوع يتعلقُ بالحرب وما لاقاه الجند خلالها وبعدها من ضيمٍ وعنتٍ وفقدانٍ للحياة أو بعض علاماتها وشواخصها الجسديَّة. فهناك دائما شيءٌ ناقصٌ في العبارة، ولا بُدّ من اللجوء إلى التأويل لإكماله في ضوء بعض العلامات النصيَّة الموجودة في كلمات العبارة نفسها.

وصورة (المتحف) و(خرائط المدن الفارغة) نفسها يمكن أنْ تؤلف نقطاً دالة وهادية، إذ إنَّ هناك شيئاً قد تبقى من كل ذلك، شيء أقرب إلى التجريد والذكرىات البعيدة منه إلى الوقائع والسرديات الملموسة. شيء جدير بأنْ يحتفظَ به في متحف أو على فراغ خريطة بوصفه كنوزاً مجازيَّة دائمة. وهو ما يمنح الحياة المفقودة وما فيها من تضحية وبطولة قيمة مضاعفة تجعلها أقربَ إلى الخلود منها إلى الحدث العابر.

هذا الشيء الباقي يمكن أنْ يتمثلَ أيضاً في سياج البيت الذي فقد بابه وإطار النافذة التي فقدت زجاجها في السطرين السابقين، فالسياج والإطار المحيط يمثلان، هما الآخران، إشاراتٍ وعلاماتٍ نصيَّة دالة تستدعي مضمونها أو روحها الغائب وتحنُّ إليه. وهما يمكن أنْ يمثلا نوعاً من المجاز الذي ينطوي على نوعٍ من الإسناد العقلي الذي يرتبطُ فيه السياج بباب البيت، وإطار النافذة بزجاجها المكسور مثلما يرتبط جسد الجندي بروحه الغائبة.

وكل ذلك يختلف بالتأكيد عن التفسير الحرفي أو غير الشعري الذي جاء في (نقد) الذكاء الاصطناعي باعتبار أنَّ “البيت الذي يفقد بابه والنافذة التي تفقد زجاجها: هذه الصور توضح الخسارة الجزئيَّة التي يمكن أنْ تحدثَ للبيوت والمباني، ما يجعلها غير مكتملة أو غير آمنة”.

وإذا عدنا إلى أصل السؤال الخاص بوجود هذا الذكاء الصناعي أو الاصطناعي باستخداماته المتنوعة، فلا بُدَّ من القول إنه يتصل أيضاً بحقوق الملكيَّة الفكريَّة والنواحي الأخلاقيَّة الخاصة بادعاءات الكاتب والكتابة، ومدى توفر المصداقيَّة والجهد الشخصي في ما يُكتب أو يدعي أنه يكتب هذه الأيام ويوضع على المواقع الالكترونيَّة، وما يحصل كذلك مع طلبة المدارس والجامعات عبر العالم من استخدامٍ واستغلالٍ مفرطٍ لهذا الذكاء في الإجابة على متطلبات الدراسة وإعداد أوراق البحث والتدخل غير المشروع في الامتحانات نفسها أحياناً، إذ يعتقد كثيرٌ من الطلبة أنَّ هذا الذكاء يوفر عليهم مؤونة التعب والجهد في الإجابة على الأسئلة أو جانب منها بهذه الطريقة أو تلك من دون بذل مجهودٍ ذاتي، وما يترتب على ذلك من نتائج غير معروفة وغير محسوبة حول المستوى العلمي والثقافي الحقيقي للطلبة. وما إذا كان من شأن اتساع استخدام الذكاء الاصطناعي التضييق على الذكاء البشري والحد من قدرة البشر على التفكير والإبداع في المستقبل.!

وأخيراً، ألا يدعونا مجمل هذا الوضع إلى القول بأننا آلات بشريَّة تنتج بجهدها وتعبها وكل تاريخها التعليمي وذاكرتها الثقافيَّة الخاصة هذا القول أو ذاك، وأنَّ هذه الآلة التي صنعها البشر أنفسهم لتمثل بشراً على شكل آلة، يمكن أنْ تقوم مقام البشر الحقيقيين، وتجنبهم الجهد والتعب وحرق العصب؟

وهل يمكن وصف وجود اختراع بشري من هذا النوع بغير كونه اختراقاً وتجاوزاً لكل الحدود والمواضعات المعروفة في الجهد البشري، وما يتصل به من تاريخٍ وعلمٍ وثقافة؟

الأسئلة، كما نرى، عديدة ومحيرة، وهي تلقي ضوءاً على ما يمكن أنْ يحدثَ في الحاضر والمستقبل من قدرة هذا الذكاء العجيبة على اجتراح معجزات في ثوانٍ معدودات، بينما هي تحتاج منا الى ساعاتٍ وأيامٍ وأشهر وسنوات، فضلاً عن ضرورة توفر عنصر الموهبة والاختصاص واستخدام المصطلح واللغة المناسبة والاستعداد العام.

والأمر لا يتعلق فقط بهذه الناحية الخاصة بالأدب والنقد وعموم الثقافة البشريَّة، كما أسلفنا، بل بكل نواحي الحياة العلميَّة والعمليَّة، والمشكلات التي يمكن لهذا الذكاء أنْ يجيبَ عنها ويحلها، أو يسهمَ في اقتراح حلها في كل جانبٍ من هذه الجوانب.

وأخيراً، يمكن لأي واحدٍ منا تجربة هذا الذكاء وطرح مثل هذا السؤال على آلة البحث الجديدة وغير المسبوقة في التاريخ البشري حول هذا النص أو غيره ليرى السائل الجواب والنتيجة بنفسه. علمًا بأنَّ هذا الجواب لن يكون واحدًا، حتى إذا طرح السؤال نفسه، تماماً كما يحصل مع البشر. فمن خصائص هذه الآلة التي تسارع للإجابة على مختلف الأسئلة في لحظات، أنها تستجيب للمتغيرات وتتغذى باستمرار على كل ما هو حادثٌ وجديدٌ في مخزونها الثقافي والنقدي والعلمي الضخم والمتغيّر باستمرار، تبعاً لما تطلع عليه في العالم السيبراني المحيط بكل التاريخ والعلم البشري.

ثم ألا يمثل كلُّ ذلك سخريَّة بالجهد البشري، وتجاوزاً للخصوصيَّة والهويَّة الفرديَّة الحريصة على البيان والتبيين وإبراز الملامح الشخصيَّة المتفردة.؟! 

وهل يمكن القول إنَّ الإنسان الذي صنع هذا الجهاز قد بدأ يخضع أخيراً لصناعة هذا الجهاز، أي أنه صار مصنوعاً بعد أنْ كان صانعًا؟

ومرة أخرى، ما رأيكم في كل هذا؟