رامية منصور
“إنني لا أحيا في ماضيَّ، ولا في مستقبلي. ليس لي سوى الحاضر، وهو وحده ما يهمني. إذا كان باستطاعتك البقاء دائمًا في الحاضر، تكون عندئذ إنسانًا سعيدًا..”
باولو كويلو
لأول وهلة ومن دون بذل أيِّ جهد يرى المتلقي أعمال جورج بيلوني أنها مستقاة من رموز الحضارات القديمة أكانت تلك المرسومة أو المنحوتة أو المخطوطة ضمن تشكيل جمالي ينتقي ألوانه بكل حساسية.. لكن لو تأملنا هذه اللوحات معتمدين على مرجعياتنا التحليلية التي تقرأ ليس ما بين سطور العمل الفني فحسب بل تذهب إلى البناء المعرفي والرؤى الفنية التي يستند إليها والدوافع النفسية التي تقف وراءه، وحينها سنكتشف الكثير مما تخفيه هذه التشكيلات الفنية والتقنية التي تزخر بها لوحات بيلوني.
لعلَّ جورج بيلوني قرأ ما كتبه باولو كويلو لكن كان له رأي آخر ورؤية أخرى.. فأن تعيش الحاضر لا يعني أن تعيش القطيعة مع الماضي لأنَّ تكوينك تم في الماضي وتراثك كله يسكن الماضي بل هو الماضي كله.. وألّا تفكر في المستقبل فهو أمر صعب بل مستحيل لأنه ووفق اللعبة الزمانية فإنك إن أخذت شهيقا في اللحظة الحاضرة فإنَّ زفيرك سيكون في اللحظة المستقبلية اللاحقة التي إن توقفت قبلها ستموت، كما أنَّ هذه اللحظة المستقبلية سرعان ما ستكون لحظة حاضرة بعد ثانية من الزمن ولحظة الشهيق ستكون ماضيا، وهكذا يتحرك الزمن حتى المستقبل الأبعد فالأبعد لابد أن تصله أو يصلك.. لهذا قرر جورج بيلوني أن يكون فيلسوفا بدل أن يكون سعيدا، أن يمسك الماضي والحاضر والمستقبل معا فيكون هو رب الزمان. تقوم الحضارات وتنهار بين يديه وتنفجر الحروب والثورات وتخمد دون نتيجة سوى تلك العبثية والمزيد من الدم والمآسي، يبعث الأنبياء فيجهدون في رسالاتهم لينتهوا على صلبانهم بأيدي الطغاة وجلاوزتهم أو بأيدي قومهم أنفسهم.. فيعيش بيلوني في كل زمان ومكان ويقرأ كل الأحداث ويتنبأ بكل المسارات فيبصر البدايات ويشعر بقدوم النهايات.
لقد اكتشف جورج بيلوني أن ما يجري من صراع في هذه الحياة هو لعبة شطرنج لا تنتهي أدوارها بموت جندي هنا أو حصان أو فيل هناك أو ملك أو وزير بينهما لأنَّ لاعبيها لا يكلون ولا يملون.. لهذا شكل التقسيم الشطرنجي العديد من لوحاته مبتكرا ألوانا إضافية لمربعاته غير الأبيض والأسود.. إنها لعبة لكنها حقيقية وثمة لون غرق هنا ولون دماء هناك، تصحر هنا واخضرار هناك..
إنَّ للرقاق الممزقة، بكتاباتها ورموزها وصورها، شيفرات يعيش قلقها بيلوني، لكأني بها أسمال حياة النصارى الذين هربوا بدينهم النسطوري محتفظين بصورة المسيح هاربين من قمع سلطة قيصر واضطهاد ثالوثه الهلنستي الذي اتحد مع إيديولوجية اليهودي ذاك المتقمص لرسالة عيسى وربما لهيأته، متخذين لأنفسهم مكانا شرقيا ليلدوا هناك ألف مسيح وألف فكرة وألف ثورة.. إنها قصة يعيدها التاريخ بكل ملامحها وآلامها.. إنها رحلات اغتراب الإنسان في بحثه عن سر وجوده هاربا من فخاخ الفناء الرخيصة ساعيا لفناء يرتضيه، فناء هو وجه من أوجه الخلود ذاته.. يبحث جورج بيلوني بصبر وأناة بفرشاته ما يلقيه الفرات في أحضان حلب التاريخ والروحانية، من بقايا الحضارات الغابرة.. بقايا أحلام الناس والمدن ومسامير ألواح سومرية وأكادية وبابلية وآشورية وآرامية ليعيد لملمة أجزائها، برؤية ومزاجية وشطحات مخيلته في لوحات هي جدران أقرب ما تكون، بذاكرة الإنسان الخالد، جدران تختزن بعض المعنى وجل الحقيقة وغاية الألم والفقدان المخطوط على مسار آلاف من السنوات هي عمر كفاح الإنسان المفكر والمدون في هذا الهلال الخصيب وتوقه نحو تحقيق كيانه المعرفي ووجوده الحر.
يلعب الفنان جورج بيلوني دور كاتب القدر، فتراه يكشف عن أقدار ويخفي أخرى، يدون أحداثا ويمحو أخرى، ليقول إنَّ سر الكتابة في إشهار المعنى، أما سر الفن فهو في غموضه.. إنَّ الفن هو الحقيقة الكونية وفلسفة غموضه أبلغ من كل بوح، وهو من يصمد ويخلد في هذا الصراع الأزلي الدامي بين مشاعل التنوير ورايات العتمة في مطحنة الكينونة والعدم.
“بدأت أفهم الفرق بين المجزرة التي تقوم بها مجموعة ما تحت تأثير انخطاف يكاد يكون وجدانياً وقد اشتبهت لديها نواميس الشيطان بالنواميس الإلهية، والجرم الفردي المدبّر ببرودة دم في الصمت وفي المكر.” امبرتو إيكو.