بذر السحاب.. ما هو وكيف يعمل ؟

بانوراما 2024/07/04
...

  كو يو
 ترجمة: أنيس الصفار                

وسط منطقة تعاني الجفاف مثل مدينة دبي الصحراوية يكون الناس على استعداد للترحيب بأية كمية من الأمطار تسقط عليهم. بل إن سلطات دولة الإمارات العربية المتحدة تحاول في كثير من الاحيان أن تستحث المطر على الهطول – وهو ما فعلته خلال فترة الشهور السابقة حينما أرسل المركز الوطني للأرصاد الجوية طائرات خاصة مهمتها حقن السحب بمواد كيمياوية ضمن محاولة لحثها أملاً بالحصول على شيء من المطر.
لكن ما انهمر عليهم في هذه المرة فاق ما كانوا يحلمون به، إذ واجهت دبي سيولاً عارمة في منتصف هذا الشهر تسببت بفيضانات أدت إلى إغلاق أجزاء كثيرة من المدينة، بما فيها المدارس والمطار الرئيسي، وأسفرت عن مقتل شخص واحد على الأقل عندما انجرفت سيارته، ناهيك عن 18 آخرين على الأقل في سلطنة عمان المجاورة، بضمنهم حافلة ممتلئة بأطفال المدارس.
قال مكتب الإعلام الحكومي لدى الامارات العربية المتحدة إن ذلك كان أكثف هطول مسجلا للأمطار منذ 75 عاماً ووصفه بأنه “حدث استثنائي”. فلمدة يوم واحد تساقطت على البلاد أمطار عادلت ما يتساقط اعتيادياً على مدى عام نموذجي كامل.

الاتهام
اليوم يوجه كثير من الناس اصبع الاتهام إلى عمليات “بذر السحاب” التي سبقت هطول الامطار. وقد وضع حساب للتواصل الاجتماعي ذو شعبية واسعة على موقع “أكس” يطلق على نفسه اسم “وايد أويك ميديا” سؤالاً يقول: “هل تعتقد أن فيضانات دبي قد تكون لها علاقة بتلك العمليات؟” وإلى جانب السؤال كان هناك مقطع من تقرير اخباري يتعلق ببرنامج تعديل الطقس في دولة الإمارات العربية المتحدة. أما الخبراء فيقولون إن “بذر السحاب” ربما كان له بعض الدور بزيادة تساقط المطر، إلا أن تحميله تبعة مثل هذا الفيضان المدمر بعيد عن الواقع.
تقول “روزالين برنسلي” رئيسة قسم معالجة الكوارث من معهد المناخ التابع للجامعة الاسترالية الوطنية: “من المستبعد جداً أن يتسبب بذر السحاب بحدوث مثل هذا الطوفان.” وتصف مثل هذه الادعاءات بأنها من قبيل “نظريات المؤامرة”.
هذه ليست المرة الأولى التي يلقى اللوم فيها على عمليات “بذر السحاب” بالتسبب بحدوث فيضانات، سواء في دبي أو انحاء أخرى من العالم. فخلال شباط الماضي اتهم مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي المسؤولين عن برنامج رائد لبذر السحاب في كاليفورنيا ايضاً بأنهم تسببوا بحدوث عواصف اجتاحت الولاية، على الرغم من أن تلك التقنية لم تكن قد استخدمت خلال الفترة السابقة للعواصف المذكورة. وفي استراليا، عندما كانت البلاد تشهد تساقطاً للأمطار بمعدلات قياسية في العام 2022، تداول مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي مقاطع من أخبار قديمة تطرح تساؤلات حول ما اذا كانت ثمة علاقة بين عمليات بذر السحاب والفيضانات، وهو تساؤل رد عليه محققو الوقائع بعبارة: “لا علاقة بين الأمرين!”
فيما يلي نستعرض ما الذي يجب معرفته عن عمليات “بذر السحاب”.. ما هي؟ وكيف تعمل؟ وما الذي ينبغي أن يقلق الناس منه فعلاً برأي العلماء.

كيف تجري العملية ؟
تعرف عملية “بذر السحاب” من حيث الاساس بأنها إعادة اصطناع للعملية الطبيعية التي يتم من خلالها تكون المطر والثلج. ففي السحب الاعتيادية تنجذب أجسام من رذاذ من بخار الماء مجهرية الحجم إلى الهباءات العالقة في الجو، مثل الغبار او حبوب اللقاح او الملح الآتي من البحر، وتلتصق بها. وعندما تتجمع كميات كافية من قطرات الماء المجهرية حول تلك النوى تكوّن بلورات جليد ثم تبدأ بالتساقط.
أما بذر السحب فإنه يتم نموذجياً باستخدام طائرات مجهزة بوسائل خاصة، كما يمكن استخدام مولدات منصوبة على الارض، لزرع دقائق متناهية الصغر (عادة ما تكون من مركب يوديد الفضة) داخل السحب المنتخبة وحولها لتقوم مقام النوى وبذلك تتحفز عملية تساقط المطر.
هل “بذر السحاب” عملية ناجحة؟
منذ أن طرحت تقنية تعديل الطقس عن طريق الرصد المستقبلي خلال أربعينيات القرن العشرين صارت تستخدم بانتظام على مستوى جميع انحاء العالم، من دولة الإمارات العربية إلى الصين مرورا بالولايات المتحدة، لتحقيق نطاق واسع من الاغراض المقصودة. بل إن عملية “بذر السحاب”، التي تستخدمها الحكومات في أغلب الاحيان للتعامل مع مشكلة الجفاف، لم تلبث أن ارتبطت ببعض أبرز أحداث التاريخ: بدءاً من ازالة التلوث في المدن الصينية من اجل الحصول على سماوات زرقاء صافية خلال فترة أولمبياد بكين التي جرت سنة 2008، إلى درء السحب المشعة التي زحفت صوب موسكو في اعقاب كارثة تشرنوبل النووية.. وعرقلة تحركات القوات المعادية للولايات المتحدة خلال حرب فييتنام. (منذ ذلك الحين حظرت الأمم المتحدة استخدام اجراءات تعديل الطقس لغايات حربية).
أما دولة الامارات العربية المتحدة، التي تعاني من شحة الأمطار، فقد توجهت على مدى عقود إلى الاستثمار بقوة من خلال مجال “بذر السحاب”، بضمنها منح خبراء هذا المجال اقامة دائمة وتمويل برامج البحوث لتحسين القدرة على تمييز السحب التي تصلح للبذار.
بيد ان الجانب العلمي المتعلق تحديداً بمدى فعالية “بذر السحاب” يبقى بعيداً عن الجزم. ففي العام 2003 خلص “المجلس الوطني للبحوث” الأميركي إلى عدم ظهور دليل علمي مقنع حول كفاءة العملية آنذاك. غير إن دراسة مهمة توصلت خلال العام 2020 إلى أن “بذر السحاب” عملية ناجحة بالفعل، مع أن الباحثين لا يزالون يعلنون بوضوح أن لها محدداتها.
يقول مسؤولو الارصاد الجوية لدى دولة الإمارات العربية ان عمليات بذر السحب التي ينفذونها يمكن ان ترفع معدلات تساقط الأمطار بنسبة عشرة إلى 30 بالمئة، في حين تقدر سلطات ولاية كاليفورنيا ان برنامجها قد يرفعها إلى ما بين خمسة وعشرة بالمئة. ويفيد معهد أبحاث الصحراء، وهي مجموعة بحثية تابعة لولاية نيفادا، إن بذر السحب يمكن أن يرفع معدلات تساقط الامطار موسمياً بنحوعشرة بالمئة، بينما قدّرت المنظمة العالمية للارصاد الجوية في العام 2019 بأن تأثيرات بذر السحاب قد تتراوح ما بين الصفر و20 بالمئة، وان النجاح في انتاج المطر يعتمد بدرجة كبيرة على الظروف الجوية مثل الرياح ودرجة حرارة السحب.
لهذا السبب يتفق الخبراء على أن بذر السحاب يجتذب عادة انتقادات قاسية من عموم الناس. إذ أن ارتدادات العملية تكون عرضة للمبالغة في اغلب الاحيان، ومع انها يمكن أن تؤدي إلى زيادة هطول الامطار فإن الدور الذي تلعبه عوامل اخرى، طبيعية وغير طبيعية، في حدوث الفيضانات يمكن أن يكون أعظم منها بكثير.

القلق من العملية
هناك جملة من التصورات التي لا تستند إلى دليل بخصوص بذر السحاب، مثل الاعتقاد بأنها قد تسبب ما يطلق عليه “الذيول الكيميائية”، وهي مسحات ممتدة بيضاء اللون تظهر في السماء أشبه بالسحب. يقول معهد ابحاث الصحراء ان تلك المسحات هي مجرد “انبعاثات نفث” وهي المكافئ المنظور لانبثاقات البخار المرئية التي نراها تنبعث مع انفاسنا مع حلول أوقات الصباح البارد. لذلك فهي لا علاقة لها بنشاطات بذر السحاب.
لكن ثمة مبررات اخرى للشكوك المحيطة بعمليات بذر السحاب، حيث يرى المنتقدون بأن تطبيقها على منطقة ما قد يؤدي ببساطة إلى حرمان منطقة أخرى من المطر نظراً لأن السحب سيتم تفريغها مما تحمله من ماء قبل الأوان. (إيران مثلاً بقيت تتهم جيرانها لسنوات بأنهم “يسرقون أمطارها”).
يعبر آخرون عن مخاوف تتعلق بالجانب الصحي بسبب المواد الكيميائية التي تستخدم أثناء بذر السحاب. فمثلا قد تكون مادة يوديد الفضة سامة للحيوان، وهي المادة التي تستخدم عادة لتنفيذ هذه العملية، ولو أن هناك من يؤكدون بأنها آمنة.
عبر “نشرة علماء الذرة” أكدت “لورا كوهل”، استاذة السياسة العامة في جامعة نورث إيسترن، بأن بذر السحاب قد ينتج ضرراً أكبر مما ينتج من نفع بسبب تلك الشكوك. كذلك فإنه نظراً لمحدودية أمد تأثيره سوف تبعث عملية بذر السحاب شعوراً بالتفاؤل والاطمئنان إلى قدرة التكنولوجيا، وبذا يغطي على اسباب الضعف البنيوي الأعمق، مثل الاستخدام غير المستدام للمياه وعدم عدالة توزيع منافذ الحصول على المياه.”

سبب حدوث الفيضانات
الشدة التي اتسمت بها فيضانات مدينة دبي الأخيرة يمكن أن تعزى بدرجة كبيرة إلى عدم بذل السلطات في هذا البلد الجاف ما يكفي لتطوير بنى تحتية فعّالة لتصريف المياه قادرة على التعامل مع أمطار بمثل هذه الغزارة. بيد أن الخبراء يشيرون إلى أن السبب الرئيسي بلا منازع لحدوث ظواهر جوية متطرفة الشدة إلى هذه الدرجة هو التغير المناخي، لأن الهواء الأكثر دفئاً يحمل معه كميات اكبر من الماء، وهذا يؤدي فيما بعد إلى حدوث امطار أشدّ غزارة وفيضانات في بعض المناطق.
تقول برنسلي إن على الناس، حين يتعلق الأمر بالتعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري وتفاقم ظاهرة الطقس المدمر، أن يكونوا أشد قلقاً بشأن الأنشطة البشرية التي ينجم عنها “بذر” الغلاف الجوي بغازات الدفيئة منهم بشأن “بذر السحاب”.
تمضي برنسلي موضحة: “يأتي التغير المناخي على رأس العمليات الجوية والمناخية الطبيعية كسبب رئيسي لكثير من الاحوال الجوية المتطرفة التي صرنا نشهدها في أنحاء مختلفة من العالم. اما بذر السحاب فإنه يستخدم لإقناع السحب العنيدة بأن تنتج بعض المطر. العواصف الرعدية نفسها يمكن أن تكون سبباً محتملاً أدعى لحدوث الفيضانات الشديدة التي شهدتها دبي بسبب التغير المناخي الذي حفز على سقوط امطار غزيرة، كما هو الأمر في شتى انحاء العالم.”

عن مجلة {تايم} الأميركية