مبارك حسني
لا غرابة في الأمر الذي يحيل إليه العنوان، فهو المخرج، البالغ حاليا 85 سنة، الذي شكلت جل أشرطته السينمائية حدثاً حين خروجها أو عرضها، منذ الرائعة الكبرى "العراب" في بداية السبعينيات من القرن الماضي، درسه السينمائي البليغ، والذي لا يبلى. جاءت بعده روائع أخرى، على غرار " القيامة الآن" (1979). وهناك إجماع على فرادته الإبداعية ورؤيته السينمائية. لذا حين عرض "ميغالوبوليس" في مهرجان كان الأخير، الذي سبق أن حاز فيه سعفتين ذهبيتين، كان الانتظار قوياً، وكانت الردود بعد المشاهدة أقوى، وليست جميعها على وتيرة الانبهار والتأييد، كما ترددت أصداؤه كتابة لدى نقاد السينما الفرنسيين، حال عرض الفيلم في شهر مايس الماضي.
حكاية الفيلم
تخيل كوبولا يوماً مستقبلياً يتنافس فيه بخصوص انتخابات بلدية في مدينة نيوروما (نسخة من نيويورك)، سيزار كاتالينا، وهو مهندس معماري مثالي الطبع، يمتلك قدرة على إيقاف الزمن، وعمدة محافظ بشدة، فرانكلين. جوليا، ابنة هذا الأخير، تحب سيزار، وتضطر إلى الاختيار بينهما، ما يعكس القرار الذي سيتخذه الناخبون بين أيديولوجيتين وخيارين مجتمعيين مختلفين، ويبدو واضحاً أن التقدم في السن فعل فعله، بحيث تخير المخرج موضوعاً قديماً- جديداً لفيلمه، ورَهَن لإنتاجه جزءاً كبيراً من ثروته وممتلكاته. ليست المرة الأولى التي يقوم بذلك، لكن الآن، يظهر الأمر مغامرة شيخٍ حقق أخيراً حلماً سينمائياً يعود إلى أيام شبابه، قبل أربعين سنة، شيخ يحاول أن ينذر الناس من وجود علامات انهيار الحضارة الحالية، ويقارن مصيرها بمصير الحضارة الرومانية، إذا لم يعد الإنسان إلى القيم الجامعة والمُقدرة لإنسانيته. فماذا تمخض عن مشاهدة الفيلم إذن؟ هذا هو السؤال الذي طرحه النقاد وحاولوا الإجابة عنه، في جل المنابر الفرنسية المتخصصة وغير المتخصصة.
الذاتية المفرطة
وأولهم نقاد "دفاتر السينما" التي اختلف نقادها اختلافاً شديداً في تقييم الفيلم، لكن مع تتبع تحليل قرائي عميق (لغة وأسلوب كتابة على الأقل) كعادتهم. ونذكر هنا مقالة الناقد يال سادات، الذي يرى الفيلم " يرقص في أوبرا حوارية جدلية مع الذات، تعلن عن عمل فني مجنون"، إلا أنه جنون يسكن عقل كوبولا، ولا يمنع من كون الفيلم "ذا بناء صامد، وسلس، لا يثقله في التعبير عن موضوعه – نهاية إمبراطورية داخل عقل رجل، واحتمال بزوغ انبعاث جدي – سوى أن هذا الجنون يبدو مُبرمجاً سلفاً".
بالنسبة لمجلة "بروميير"، المتخصصة في الأخبار والتحليل الخفيف، يورد الناقد فرانسوا ليجي بدوره وصف الجنون والذاتية، مع ذكر أن ميغالوبوليس يتميز "بسذاجة مدهشة" و "يكرر نفسه، منتقلا من موضوع إلى آخر دون مقدمات. فهو تارة فيلم تاريخي، وتارة كوميدي، وتارة أخرى فيلم سياسي أو مستقبلي...". ولا يبدو أن ذلك يزعج البتة كوبولا، الذي ملأ فيلمه بكل شيء، فصار عبارة عن "فوضى مفتوحة"، بتضمينه المؤثرات الرقمية الخاصة والإحالات إلى الأدب والتاريخ، ومزج كل ذلك.
بالنسبة لـ"فرانس أنفو"، يبدو فرانسيس فورد كوبولا في منعطف سينمائي غير مألوف، "حيث تتناقض طموحات السيناريو الهائلة مع الوسائل المحدودة لفيلم يظهر من الفئة الثانية الفئة B، فلا يأخذ المخرج موضوعه بجدية، مع أنه يدَّعي العمق في المواضيع التي يتناولها". وبالتالي يظهر فيلماً يستعير جماليات السينما في السبعينيات من القرن الماضي، "حد الغرور".
الدفاع عن كوبولا
ناقد مجلة "لوبوان" الرصينة، كريستوفر أونو دي بيو، عَنونَ مقالته التحليلية هكذا :" يجب الدفاع عن فرانسيس فورد كوبولا" وذلك لأنه يحاول أن ينقذ العالم من الانهيار، بإحراق كل سفنه، كما فعل الطاغية الروماني أكاتوس حين مهاجمته ميغالوبوليس في قرطاجة.
هذا فيلم، في رأيه، "مجنون تمامًا، هزلي، مبتذل، ضخم، وكارثي وبشع في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى عظيم وشاعري، سواء من خلال جماليات الانهيار الخلقي، أو من خلال التفاؤل والإيمان بالإنسانية والحب رغم كل شيء، فيجرؤ المخرج على الوعظ به، بأسلوب شعري".
ناقد صحيفة "لومانيتي" اليسارية بيير باربنسي، مدح الفيلم، حيث يعتقد بأن كوبوبلا "ترك لنا وصية سينمائية، يتجلى فيها ذكاء فني وابتكار في الكتابة. وصية رجل يحتفظ بالأمل. مثل الطفل الذي ولد للتو وغزا الشاشة، في الصورة الأخيرة تمامًا للفيلم رهان على المستقبل. "ميغالوبوليس" فيلم عظيم، ربما يكون الفصل الأخير لعملاق السينما
هذا". اختلفت الرؤى والانتقادات، فتاريخ المخرج لا يدع أحداً خارج دائرة الأثر الذي تخلفه مشاهدة أفلامه.