استراتيجيات تطبيق الاقتصاد الكاربوني الأخضر في العراق
أ. د. جيهان بابان*
مع تصاعد القلق تجاه فوضى الطقس نتيجة التغير المناخي وتأثير انبعاثات الغازات الدفيئة على الاحتباس الحراري أصبح لتطبيق سياقات التخفيف والتكيف أهمية عالمية تتعلق بمستقبل البشريَّة، ومعها تعاظم الاهتمام بتطبيق مقررات مؤتمر باريس حول التغير المناخي الذي عقد في 2015 وصادقت عليها جمهورية العراق عام 2021.
وأكدت هذه الاتفاقية على مسؤولية الدول الصناعيّة الكبيرة بحكم كونها المصدر الرئيس لانبعاثات الغازات الدفيئة على تمويل كلفة الإجراءات المطلوبة للتقليل من حجم الانبعاثات التي تتراكم في الغلاف الجوي وتبعاته البيئية وعلى الصحة العامة مدعومة بغطاء قانوني وتشريعي مع تحديد الآليات المالية والاقتصادية الفعّالة لتحويل هذا المفهوم إلى واقع ملموس على صعيد كل بلد.
فمن دون ذلك ستبقى البلدان الأكثر تأثراً بالتغير المناخي وأحدها العراق تتحمّل وحدها كلفة سياقات التخفيف والتكيّف الوطنية للتغير المناخي.
الجانب الآخر في اتفاقية باريس هو التأسيس لمبدأ اقتصاديات الكاربون الأخضر الدائري وتحفيز ودعم مبادرات استخدام الأداتين الماليتين، وهما الضريبة وسندات الكاربون التي يحق لشركات لم تتمكن من خفض الانبعاثات شراؤها لتنفيذ التزامها بتخفيض الانبعاثات الملزم قانونياً، وللحصول على أفضل النتائج يجب أن يصاحب ذلك خطوات عملية للانتقال من أنموذج التنمية الاقتصادية الخطي "وهو السائد حالياً" إلى الاقتصاد الدائري المستدام بإجراءات تهدف إلى تقليل وإعادة استخدام غازي الكاربون والميثان وتدويرهما عبر استخدامه في الصناعات والمنتجات الجديدة، أو في التقاطه وخزنه بطريقة آمنة.
إنّ اقتصاديات الكاربون الدائري المعاصرة تمثل إطار عمل لإدارة وتقليل الانبعاثات وأشبه بنظام حلقة مغلقة مكونة من أربعة عناصر "خفض الانبعاثات وإعادة استخدامها وتدويرها وإزالتها" بما يعطي الكاربون قيمة مضافة عند استخدامها في صناعات، مثلا انتاج الوقود الاصطناعي أو مواد إنشائيّة، مثل الطابوق والاسمنت، أو في صناعات السماد.
كما ويدخل أيضاً في صناعة الأغذية والمشروبات مع تطوير التقنيات الحديثة لالتقاط ونقل وتخزين أمين للكاربون في طبقات الأرض السفلى بالاستفادة من الخبرات الإقليميّة والدوليّة.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن تجارة الكاربون هي أحد مكونات هذا الأنموذج عبر تحديد المسؤولية الماليّة للقطاعات الإنتاجيّة المختلفة الحكوميّة والخاصة لانبعاثات الغازات الدفيئة عبر اعتماد سعر مناسب للكاربون قابل للتحول إلى سندات ذات قيمة ماليَّة يمكن تداولها، إذ تستطيع المنشآت والمشاريع التي سددت التزاماتها البيئيّة في خفض الانبعاثات الحصول عليها، وبيعها لشركات عاجزة عن تسديد التزاماتها البيئيّة تجاه اتفاق باريس 2015، ومن ثم توفر موردا ماليا احتياطيا للاقتصادات الناشئة لتمويل مشاريع التخفيف والتكيف مع التغير المناخي، كما هو مثلاً في "المكسيك وجنوب افريقيا وتشيلي وكولومبيا والبرازيل".
في هذا السياق يصبح الاقتصاد الكاربوني الدائري اطاراً مدعوماً قانونيَّاً وماليَّاً لوضع خارطة طريق بحسب الظروف الوطنية ومتطلبات التنمية المستدامة نحو تحقيق مهام المرحلة الانتقالية عبر تنفيذ الأهداف الوطنية لخفض الانبعاثات من المشاريع الحكومية والخاصة في قطاعات الطاقة والكهرباء والإعمار والنقل والزراعة عام 2030، وتصفيرها بحلول عام 2050.
من هنا، حدد عدد من البلدان سعراً مناسباً معتمداً للكاربون بما يضمن التوازن بين خفض الانبعاثات ومتطلبات تنمية الاقتصاد الوطني وتكاليف سياقات التخفيف والتكيف مع التغير المناخي، بما يحفز الجهات الملوثة لتقليل انبعاثاتها وعلى أساس هذا السعر يتم فرض ضريبة كاربون تستقطع مباشرة من الجهة الملوثة مع وضع سقف زمني محدد لخفض الانبعاثات.
وفي حالة تجاوزها يتم تغريم الجهة الملوثة، ولكن في حالة الالتزام بها يتم منح سندات الكاربون ذات قيمة مالية يمكن تداولها في سوق خاص، حيث يمكن بيعها إلى جهات أخرى لتغطية كلفة تخفيض الانبعاثات الصادرة عن مشاريعها، وبهذا يتطور سوق للتجارة بسندات الكاربون، حيث تشتري الجهات الملوثة وغير القادرة على خفض الانبعاثات كمية كافية من سندات الكاربون لتغطية انبعاثاتها.
ومن الضروري أن يكون هناك سعر عالميّاً معتمداً للكاربون لمنع قيام مالكي المصانع بنقلها إلى بلدان أخرى، كي لا تخضع للمساءلة القانونيّة بسبب عدم وجود قوانين محلية أو ضعف في تطبيق القوانين المرتبطة بالتلوث البيئي.
وقد شخّص تقرير البنك الدولي الصادر في مايس 2023 عن واقع واتجاهات تسعير الكاربون زيادة إيرادات سوق الكاربون بنسبة 60 بالمئة عام 2022 ووصلت إلى 84 مليار دولار، والذي يؤكد الاستنتاج أن اقتصاديات الكاربون واعدة إذا ما تمَّ التخطيط لها وإدارتها وحوكمتها بشكل احترافي ومهني بمختلف جوانبه البيئيّة والماليّة والاقتصاديّة، بما يضمن تحقيق الأهداف الموضوعة.
وأشار التقرير أيضاً إلى وجود 36 دولة تستخدم ضريبة الكاربون، و32 نظام لتداول سندات الكاربون.
ومن مبادرات البنك الدولي هو تنظيم فعالية سنويّة بشأن الاستثمار، والتمويل المناخي بمشاركة من القطاعات الحكومية والخاصة والمؤسسات المالية الدولية لمناقشة وتقييم المعالجات المبتكرة للتمويل المناخي.. وأتطلع أن تكون هناك مشاركة عراقية فاعلة فيها، وفي الفعاليات الدوليّة الأخرى الهادفة إلى اعتماد سياقات فعّالة دوليّة للتسعير الكاربوني.
وقد حددت اللجنة العليا للبنك الدولي لتسعير الكاربون في 2017 وعلى ضوء اتفاق باريس 2015 بسعر 40 - 80 دولاراً لكل طن من الكاربون لغاية عام 2020، ومن ثم 50 - 100 دولار لغاية 2030 ، "في عام 2024 تراوح سعر الطن المتري من الكاربون بين 32 - 18 دولار وهو أقل من السعر المحدد".
وعلى أساسها تقوم الحكومات بفرض ضريبة الكاربون، ولكن واجهت عملية تطبيقها عقبات سياسيّة وقانونيّة والتي حاول معهد جرانثام للبيئة والتغير المناخي معالجتها عبر اقتراح آليات عملية لجعل ضريبة الكاربون أكثر مقبولية من قبل القطاعات الصناعية ومجتمعية وتحفز خفض الانبعاثات.
ويمكن أن يمتدَّ تسعير الكاربون ليشمل جميع الانبعاثات.
وعادة يقاس بحجم انبعاثات الكاربون "أو ما يعادله من غاز الميثان مثلا" وبما يدفع قطاعات الصناعة والطاقة والنقل والمستهلكين إلى اختيار بدائل ذات كلفة كاربونية أقل، مثلا في استخدام وسائط النقل العامة.
وهنا يجب التأكيد أنَّ الاقتصاد الكاربوني الدائري الأخضر ليس هدفاً بحد ذاته، بل يمثل اطارا ومجموعة من الآليات والأدوات المالية لدفع الاستثمارات بإتجاه إقامة مشاريع إنتاجية مستدامة وصديقة للبيئة وعلى الصعيدين الحكومي والقطاع الخاص ورفع مستوى الوعي المجتمعي لإعطاء افضلية للبضائع المنتجة بأقل من ناحية الانبعاثات.
ويتطلب كل ذلك تغيرا بنيويا في إدارة التنمية الاقتصادية تتضمن الاقتصاد الكاربوني بشكل ديناميكي ومبتكر تلعب فيه التكنولوجيا الحديثة دوراً مهماً، والاستخدام الأفضل لمنهج الاستثمارات الخضراء مدعومة بسعر مناسب للكاربون بما يحفز السوق والاقتصاد فالسعر الكاربوني العالي ليس بالضروري أن يقود إلى نتائج إيجابية.
وينطلق التطبيق العراقي لتطوير اقتصاد كاربوني من أن قطاع الطاقة، مثل شركات النفط والغاز والكهرباء والمؤسسات الصناعية "معامل الطابوق والسمنت" ومنظومة النقل تشكل المصدر الرئيس للانبعاثات الكاربونية فاقم منها تصاعد تجريف البساتين وفقدان المناطق الخضراء بصورة متسارعة والتي تضع تحديات كبيرة أمام تحقيق أهداف مؤتمر باريس 2015 لخفض الانبعاثات الكاربونية، وما أقرته الاستراتيجية الوطنية العراقية 2020 لخفض الانبعاثات، ومع ذلك ممكنة التحقيق مع توفر الرؤية والسياقات السليمة وحوكمة التنفيذ والتخصيصات المالية في الميزانية العامة للدولة.
ومن الجدير بالذكر أن العراق على صعيد الانبعاثات يحتل موقع 81 عالمياً، والثامن عربياً، وبمعدل 4.3 طن للمواطن العراقي الواحد من انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون، وهو دليل مهم على أن موقعه المتقدم في الدول المصدرة للنفط لايعني مسؤوليته عن انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً، بل هو ضحية انبعاثات الدول المتطورة اقتصادياً.
مع ذلك كي يتم تسديد الالتزامات الدولية تجاه اتفاق باريس ومقررات كوب 28 لتخفيض الانبعاثات بنسبة 2 بالمئة بحلول عام 2030، وقد اتخذت وزارة البيئة العراقية خطوات ملموسة للبدء بتطبيق الاقتصاد الكاربوني، منها الإعلان عن شركة عامة لاقتصاديات الكاربون تابعة لوزارة البيئة، وبما يضمن أن يكون نظام سوق الكاربون إضافة نوعية للمنظومة الاقتصادية والمالية، ولكن بخصوصية خفض الانبعاثات الدفيئة وتحفيز مصادر متجددة للطاقة ودعم سياقات التخفيف والتكيف مع التغيرات المناخية من أبرزها هو الحد من حرق الغاز المصاحب "الفلير" وتحويله إلى ثروة وطنيّة عبر استخدامه لتشغيل محطات الكهرباء والمصانع وإبرام عقود لإقامة حقول من الطاقة الشمسيّة واستخدام الغاز في وسائط النقل والتوسّع في وسائط النقل الجماعي، مثل الباصات العامة والسكك الحديدية وتحديث القطاع الزراعي عبر تطوير مساحات خضراء تقلل انبعاثات غاز الميثان وأنشطة تهدف إلى تطوير وعي مجتمعي لترشيد الاستهلاك وتقليل الهدر في استخدام الطاقة الكهربائية والحرارية.
ولكن تبقى التحديات ماثلة أمام الحكومة العراقية لتحقيق المزيد من الإنجازات، بما يترك بصمته على التنمية الاقتصادية والاجتماعية لما تتطلبه من تغيرات بنيوية في إدارة القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والاستخدام الفعّال للتكنولوجيا الجديدة ورفع مستوى الوعي المجتمعي وبرؤية ديناميكية للمتغيرات خلال الثلاثة عقود المقبلة لتحقيق الأهداف التي وضعها البرنامج الحكومي لتخفيض الانبعاثات في عام 2030 وصولاً إلى تصفيرها بحلول عام 2050.
ومن الجوانب الإيجابية هو دعم رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء لرؤية التنمية الاقتصادية المستدامة التي انعكست في القرارات الحكومية الأخيرة الهادفة إلى أتمتة المنظومة المالية والضريبية وإقرار الميزانية المالية لثلاث سنوات مقبلة، بتخصصاتها الضخمة التي هي أكثر من أرقام وحسابات، بل تعكس اولويات الدولة العراقية لتطوير الاقتصاد المستدام والتنمية المجتمعية وحماية البيئة لغاية عام 2027.
عمليَّاً هناك ضرورة لإنجاز بعض الخطوات العملية، مثل إقامة منظومة كفوءة لتقييم وحساب البصمة الكاربونية باعتماد برامج رقمية اثبتت فعاليتها عالمياً "بحدودها الثلاث المباشرة نتيجة النشاط الإنتاجي صناعي أو زراعي وغير المباشرة التي تعود لكمية الطاقة المستخدمة أو بسبب سلسلة التوريد" وتحديد سعر عراقي للطن من الكاربون يتم على أساسه حساب الضريبة الكاربونيّة بالدينار العراقي، وصولاً إلى تطوير سندات تمنح للشركات التي تنجح في تحقيق أهداف تقليل الانبعاثات، يمكن تداولها في سوق مالي أخضر على وفق ضوابط مالية وقانونية، وتتيح للصناعيين تحديد مسؤولياتهم الضريبية بدقة تحفز الاستثمارات على أسعار تنافسيّة لمنتجاتهم الصناعيّة أو الزراعيّة وتكافئ من ينجح في خفض الانبعاثات، والذي يعني استخدام أداتي الضريبة والسندات جنباً إلى جنب بما يتماهى مع الواقع الاقتصادي العراقي ومع متطلبات التنمية الاقتصاديّة والمجتمعيّة.
وهناك عدد من الدول التي قطعت شوطاً في السير على طريق الاقتصاد الكاربوني المستدام، ومنها بريطانيا وأوروبا، والتي يمكن الاستفادة من الخبرات في الانتقال نحو اقتصاد كاربوني أخضر متوازن وفعّال جاذب للاستثمارات خاصة في المشاريع الرامية إلى تعزيز الاستدامة وخفض الانبعاثات وتطوير وعي صناعي وزراعي ومجتمعي بأهمية ودور الاقتصاد الكاربوني الذي ستستخدم وارداته لتمويل برامج التخفيف والتكيف مع التغير المناخي، ومنها على صعيد العراق مثلا معالجة ندرة المياه عبر حصاد المياه غير التقليديّة، وتمويل مركز إقليمي بحثي عن التأثيرات البيئيّة والصحيّة للعواصف الترابيّة والغباريّة على سبيل المثال، أو محمية زراعية للعنبر في محافظة النجف، أو الأكثر تحدياً هو انشاء شركة عراقية لتجميع وخزن الكاربون بعد التقاطه بطريقة علمية آمنة باستخدام التكنولوجيا الحديثة وفقاً للمواصفات العالميّة، بما يقلل المخاطر من تسرّبه إلى الغلاف الجوي
مجدداً.
* خبيرة في علوم البيئة وهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي، مؤسسة ورئيسة جمعية البيئة والصحة العراقية في المملكة المتحدة، والمركز العراقي لهندسة الطاقة المتجددة والتغير المناخي.