الصمت بين حدَّي الاحتقار والنسيان

ثقافة 2024/07/10
...

جينا سلطان

    عرف هرقليطس الشخصية بأنها قدر المرء، وفسرها يونغ بتجليات العقل اللاواعي الذي ينشد تعبيرا خارجيا لكل ما يحتويه من أفكار سلبية ومشاعر مجهضة بفعل الانضباط الذي تفرضه الحياة الاجتماعية. وبتعبير آخر ينشد اللاوعي موقفا داخليا لا يجعل الإرادة الواعية تتجلى في أحداث خارجية على أنها مصير، كاللجوء إلى الصمت مثلا لتجاهل الإساءات الأخلاقية المتأتية عن المقربين، وأبرزها التنمر والتحرش اللفظي والبدني. وهو ما يستدعي من الضحايا التجاهل واللجوء إلى دفن ردود الفعل المقموعة في لجة النسيان، حتى تعاود الظهور بشكل مفاجئ ودونما سابق إنذار، مستدعية العجز عن معالجة المستجدات بما يتناسب مع راهنتها.  

    تتطور سمات الشخصية الرئيسية باكرا في الحياة، وتصبح بمرور الوقت منيعة ومتأصلة، لذلك أيا يكن الإنسان ومن حيثما أتى، فسوف يكبر إلى شكله وصورته الحالية في حديقة طفولته الباكرة. ويُظهر تحول السلوك المعرفي في العلاج النفسي أن معظم الناس لا يتغيرون، ليس من دون حافز قوي وجهد مستدام. ونظرا لكونهم لا يتعلمون الكثير من تجاربهم، نادرا ما يفكرون في تعديل سلوكهم، إذ ينسبون مصدر المشاكل إلى مَن حولهم، وبالتالي يتابعون فعل ما يفعلونه رغم كل شيء، سواء كان للأفضل أو الأسوأ. لذلك يتعاطى العلاج السلوكي المعرفي باستراتيجيات التغيير، لتحديد أنماط التفكير السلبي وتحييدها، لبناء الثقة بالنفس وغرس الإيمان بقدرات الفرد الذاتية، وفي الوقت نفسه تأهيله للحصول على نظرة ثاقبة لسلوكيات ودوافع الآخرين.

    في روايتها “الزوجة الصامتة” تلاحق الروائية الكندية أ.س.أ هاريسون أثر تحول السلوك المعرفي لدى شخصيتها الرئيسية جودي، باعتبارها محللة واستشارية نفسية. وتركز على مأزقها المتأتي عن تخطي الحقيقة الأساسية في الحياة، التي تنص على أن الناس لا يتواجدون في محيطنا من أجل سد احتياجاتنا أو تلبية توقعاتنا، وبالتالي لن يعاملوننا على نحو جيد دائما. لأن تناسي هذا المبدأ يولد مشاعر الغضب والاستياء في النفس، بينما يعزز التركيز على الجانب الإيجابي للناس وقبولهم كما هم صفاء الذهن. وتناقش هاريسون انطلاقا من المبدأ السابق أهمية بقاء المعالج النفسي تحت إشراف مختص نفسي متمكن، يساعده على ضبط إيقاعه الداخلي ويعيد التوازن إليه وسط صخب الأفكار وضجيج المشاعر المتضاربة التي يضطر إلى مواجهتها مع مرضاه.

    تدور الرواية بين حدي الخيانة والصمت الذي يشير بداية إلى خلل خفي في علاقة الأب بالأم، ويتمثل في العشيقة التي تضع الزوج في خانة الخائن، وتتسبب في مصادرة حق الزوجة في الاعتراض، عبر تجاهل وجودها وعدم التحدث معها، فيصبح الأطفال وسيلة التواصل بين الطرفين. وهذا الأسلوب يُستنسخ مع جودي، فتعمد إلى الصمت في تعاملها مع شقيقها الأكبر الذي تحرش بها تحت وطأة فورة الهرمونات في سن الثانية عشرة، فتلغيه من حياتها نهائيا. وبفعل قانون الصمت السائد في المنزل تعالج موضوعها بنفسها رغم سنوات عمرها الست، وتضع له حدا، وتحاول جاهدة منعه من التحرش بالشقيق الأصغر البالغ من العمر ثلاثة أعوام.

    تتعقب هاريسون الأثر السلبي لانتهاك براءة الطفلة التي كانتها جودي، وتبين الطريقة التي رسم بها العقل اللاواعي مستقبلها كمحللة واستشارية نفسية، تمتهن مساعدة الآخرين ليكونوا أكثر مرونة، أي مثلها. وتبرز عمق الخديعة في تجربتها كامرأة رفضت الزواج وإنجاب الأطفال كي لا تسقط في الخذلان والإذلال أسوة بأمها. فلا يجنبها حرصها المبالغ به قسوة المواجهة مع نفسها، ووصول حياتها إلى منعطف حرج غير محتمل، بعد أن بذلت قصارى جهدها طوال عشرين عاما لإنجاح الشراكة مع تود، فأنشأت حياة هادئة متماسكة وحافظت عليها.

    وطنت جودي نفسها على قبول خيانات تود المتكررة وتجاهلتها، واستندت إلى الروتين اليومي الذي كان يجعل مزاجها جيدا وحياتها متماسكة. إذ أبعد الرعب الوجودي الذي يمكن أن يباغتها في أي وقت تشعر فيه بتردد أو خسارة، وذكرها بأهمية الفراغ الذي تتمتع به؛ الاستمتاع بالانهماك في العمل مع مرضاها الذين تنتقيهم مسبقا، وإدارة منزلها، وإبقاء نفسها رشيقة وأنيقة. بالمقابل، أحب تود وجود شيء متغير بطبيعته، واتكأ على قوته الفطرية غير المصقولة أو المكتسبة بالثقافة والحاضرة دائما، كي يمتلئ بفاعلية الحياة التي تجعله يرى العالم بأبهى صوره، فيكون مشاركا وطرفا وليس مراقبا أو رحالة أو نادما. وبسبب طبيعته الحركية أوصله إدمان الحياة السعيدة القائمة على التوازن إلى الاكتئاب، فاحتاج إلى زوبعة تثير ركود الاكتفاء، وترده مجددا إلى ثالوث التوق والجشع والرغبة، الذي تمثل في عشيقته ناتاشا، التي استهدفت عقله البدائي مباشرة، فتأطرت علاقته بها بالفوضى والهوس والإدمان.

    ولأن جودي رفضت سابقا تحصين حياتها المشتركة مع تود بالزواج، لحماية مكتسباتها القانونية كزوجة، تملك الحق في نصف ثروة زوجها، انهارت وحبست نفسها في جحرها مثل أرنب عندما بلغها إشعار الإخلاء. فلم تعد المشكلة فقط الاحتفاظ ببيتها، وإنما المتاعب المحتملة أيضا من وضع غريمتها الشابة ناتاشا الحامل مكانها وتعاقب أيام لا تنتهي بالنسبة إليها، في حين يستمر تود بالأكل والنوم وإقامة العلاقات في جزء آخر من البلدة. لتدرك أن العالم من دون تود يجسد نوعا جديدا من المفاهيم، يكثف إحساسها بأنها هائمة في وجود فارغ، يجسد مكانها التعيس وسط الحقيقة الأساسية في حياتها، والمبنية على التجاهل والنسيان. وبذلك تجد نفسها مجبرة على مواجهة المساحة المظلمة التي ظلت تخفيها تحت عباءة التفاؤل وتدفنها في جولات الحياة العادية، هناك حيث عاشت محصنة بفكرة ارتباط نجاح الإنسان وازدهاره بدرجة تلاعبه بظروفه الشخصية فقط. أما تناوب فصول الرواية بين جودي التي ترمز لها هاريسون بالضمير الغائب هي، وتود الذي تُغيبه بالضمير هو، فأكسب التعاطي مع الخيانة والصمت المؤطر بحدي النسيان والاحتقار عمومية تطول المجتمع بأسره.