ميثم الخزرجي
فصلان رئيسان معنيان بتوجّهات هيجل المعرفية ومتبنياته الإشكالية، الأول: الوحدة العضوية الشاملة التي تأخذ على عاتقها تصنيف الفرد كوحدة خاصة مجتزأة من ضمن الوحدة الكلية الشاملة والتي بدورها تتضمّن جميع الاعتبارات الإنسانية والقيمية وإعطاء الدولة الحقّ في تعيين هذه السمات بوصفها الواهبة والمانحة لهذه القيم، المسألة الأخرى: مذهبه التاريخي بشأن الديالكتيك وتطوّر المفهوم الجدلي عنده، مشيراً إلى أنَّ سعة الحراك الزمني يأتي على مستويات عدّة لها مقرراتها المؤهلة للنقاش والتوقف عندها لا أن نتعداها، فكل مرحلة زمنية لها حقيبتها المعرفية التي تتكيف على وفق نظام العالم الفكري ومرجعياته الثقافية وإقرار الذهنية له وكيفية تعاطيها مع منسوب السؤال.
حقيقة الأمر بودي أن استقرئ الطرح الذي اتخذه هيجل حول نظرته للإنسان على وجه الخصوص بوصفه العتبة الأولى التي تكوّن المجتمع، وما يحمله هذا الإنسان من سمات قيمية وأخلاقية، فضلاً عن الدور الذي يقرره الوعي الجمعي له، وهل بإمكانه أن يتحرر من أنساق هذا المجتمع في حال لو تصرّف كإنسان ذري منعزل له تطلعاته الشخصية ومن الممكن أن يدير شأنه بنفسه بعيداً عن الدستور المدني الذي تفرضه الدولة؟ وهل أنَّ تأثير الدولة كركيزة قائمة بذاتها وبحسب التعريف المدني لها عبارة عن مؤسسة لها كيانها القانوني وسننها المؤهلة للإدارة ومصاديقها الفكرية باستطاعتها أن تمنح السمة القيمية والأخلاقية لهذا الإنسان؟ والتي بدورها تعيّن خصاله الإنسانية على وفق نظام دال ومعايير متفقة وطبيعة الواقع؟ أم أنه ليس بمقدوره أن ينفصل عنها كونه آمن إيماناً قطعياً بأنَّ ماهية تقويمه تأتي عن طريقها والتي عبّر عنها هيجل بالمطلق أو صاحبة المثل العليا؟ وقد أتساءل عن وجهة نظر هيجل للدولة؟ وسبب إيمانه بها بوصفها منظومة ساعية لبناء قيم المجتمع كما يقول؟ وكيف له أن يربط مكانة الإنسان بوعي السلطة؟ وهل أنَّ هذه الثنائية لها مقدّراتها على الصعيد الاقتصادي والسياسي الذي يرافق نمو وتطور المجتمع في ما بعد؟ وهل أنَّ الوحدة العضوية الكلية بوصفها مفهوماً مجتمعياً متكاملاً وموحّداً قادرة على التغيير في المثل العليا/ السلطة في حال لو اعتبرنا أنها انفصلت من هيكلية الدولة؟ أو أنّه ضربٌ من الوهم؟
إنَّ الزعم الذي تبناه هيجل حيال علاقة السلطة بالفرد جاء مناوئاً للعقلانية التي قالت إنَّ الاعتبار الوجودي للإنسان لا يأتي عن طريق الآخر، إن كان سلطة أو مؤسسة أو كائناً بشرياً مستقلاً بذاته، فقد أشار إلى أنَّ الحقيقة الفعلية له تنضوي في الوحدة العضوية المجتمعية والتي بوصفها تمتثل لوعي السلطة فلا مكوّن يقع خارج هذه الدائرة، لكني هنا سأفصل المعنى الحقيقي للسلطة بحسب رؤية هيجل، وتطور مفهومها لديه، وماهي حدودها الممكنة في تعيين مقدرات المجتمع؟ هل أنها منظومة راديكالية خارجة عن السياق القيمي لتهيمن على تحركات المجتمع وتتحكم بمصيره؟ وهل هي مطلقة خارجة عن معايير التقييم والمخالفة؟، وهل أنَّ كل سلطة صالحة، من الممكن أن تدير شأن المجتمع وتتعامل مع مستجدات الواقع؟
في البدء علينا أن نوضح العناصر الثلاثة التي ارتكزت عليها منظومة هيجل الجدلية حيال ارتباط المجتمع بالقيم العليا المتمثلة بالدولة بوصفها حقيقة مطلقة لا تقبل الشك، الركيزة الأولى هي الأسرة، التي تمثل الروح الإنسانية المحمّلة بالشعور الفطري الذي يتجسد عند كل فرد من أفرادها ليشكل واعزاً حقيقياً في تأصيل بنية معيارها العاطفة لتأتي عن طريق هذه البنية الوحدة الشعورية المتصلة اتصالاً كلياً بالحياة والواقع لذا يكون هذا التأسيس ناجماً عن العاطفة أولاً على الرغم من أنَّ لكل فرد من أفراد الأسرة متبنياته الخاصة التي تشتمل على رؤى عدّة ذات طباع متنوعة إلا أنها تقترن بالوحدة المجتمعية التي تمثل روح الأمة بحسب تعبير هيجل.
العنصر الثاني هو طبيعة المجتمع وفاعلية تكوينه، فلو أخذنا نشأة الفرد ومراحل نموّه وتطوره فكرياً لوجدنا أنَّ الطفل موجودٌ بذاته كهيئة غير واعية لا يستطيع أن يشير أو يستقرئ المآل، وهنا إشارة إلى تعيين الفرد كوحدة فاعلة من عدمها، وقد يتغيّر هذا المفهوم إمعاناً لتقدم العمر فيصبح الطفل شاباً يافعاً له جهازه المفاهيمي الذي عن طريقه يعيّن وجوده كذات واعية لها مقدَّراتها المعرفية وطموحاتها المستقبلية التي باستطاعتها أن تندمج مع الروح الكلية للمجتمع والمقدّر لها أن تُدار من قبل الدولة، وفي حال اجتزاء هذه الأفراد وانقسامها بصورة مستقلة تنتج الطبقة البروليتارية الساخطة على الأثرياء من أبناء الشعب، ولعلي أجد أنَّ جوهر الاختلاف الذي وقع بين منهج هيجل المثالي وماركس المادي هو أنَّ الأخير يستقرئ الواقع كما هو مانحاً القدح المعلى للإنسان بعيداً عن القيمة التي تفرضها الدولة لذا يدعو لثورة ضد الاقتصاد الرأسمالي والقوى البرجوازية كونه يرى أنَّ الحل يأتي عن طريق الحراك الناجم عن انتفاضة تطيح بجميع القوى الرجعية، على عكس هيجل الذي يحتكم للدولة بجميع الصراعات الرأسمالية والاقتصادية مؤيداً جميع مقرراتها.
أما العنصر الأخير فهو خصوصية الدولة المتطورة التي لها رؤيتها الملائمة لروح العصر لتنهض بالواقع على وفق اعتبارات أخلاقية تأتلف والمنظومة الفكرية التابعة للمجتمع لتصيّره على وفق مفاهيم هذه الدولة، يقول والكلام لهيجل، إنَّ الدولة جاءت من اتحاد وحدة مركبة تجمع بين هيكلية الأسرة التي تشكّل وحدة اجتماعية ثقافية تنمّي الفرد مع بنية المجتمع بعموميته لتنتج الوحدة الكلية الشاملة التي تمثل الدولة لذا بيّن أنَّ استقراء منهاج المؤسسات الاقتصادية أو التي تعنى بالمال جاء من وحي هذا المجتمع والذي بدوره مرتبط ارتباطاً كلياً بالدولة، كذلك الحرية فقد أيّد التصاقها بالقيم العليا كونها تتعامل معك كوجود روحي وأنت كشخص لا يمكن أن تصل إلى الإرادة المحكَمة في اتخاذ قرارك بوصفك جنساً بشرياً ما لم تتصل بالدولة ذلك أنَّ حقيقة الإنسان وجوهرَه جزءٌ لا يتجزأ منها.